تسبّبت تغريدة لأستاذة الفنّ والعمارة الإسلامية البريطانية ديانا دارك، بعاصفة ردود أفعال قومية مسيحية في فرنسا، عقب اندلاع حريق أتى على "كاتدرائية نوتردام" التاريخية في باريس، يوم 15 نيسان/ إبريل 2019. فقد كانت هذه الكاتدرائية تُلخّص القومية الفرنسية على نحو ما، كما جاء في تصريح للرئيس إيمانويل ماكرون، بل ورمز الإيمان الكاثوليكي. وفي أجواء من تدفّق اللاجئين والهجمات الإرهابية لداعش خلال العام ذاته والأعوام الموالية، توسّعت مظاهر الإسلاموفوبيا، أوسع بكثير من تقاليد اليمين التقليدية ضدّ المُهاجرين، بل وضدّ الفرنسيّين من أصول عربية وأفريقية. وسط هذا المناخ السلبي، لنتخيّل الهجوم المضادّ على تغريدة "مستفزة" صباح اليوم الثاني من الحريق تقول إن "تصميم نوتردام المعماري مثل جميع كاتدرائيات أوروبا مُستلهَم من كنيسة قلب لوزة في محافظة إدلب".
تراث نوتردام
وتتساءل دارك "ماذا لو كان الأسلوب القوطي المُعقّد الدقيق الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالكاثوليكية الأوروبية، هو بدوره مُستلهَما من العمارة الإسلامية". ليس هذا فقط، بل أردفت سؤالها في موقعها الإلكتروني، بدراسة تحت عنوان "تراث نوتردام أقلّ أوروبية ممّا يظنّ الناس". كل ذلك، ولنقل من شرارة التغريدة، دفع الكاتبة لنشر كتابها "السرقة من الساراسن: كيف شكّلت العمارة الإسلامية أوروبا" (Stealing from the Saracens: How Islamic Architecture Shaped Europe) الصادر عن "الدار العربية للعلوم ناشرون"، في آب/ أغسطس 2020، وترجمه إلى العربية عامر شيخوني، ونال عنه "جائزة حمد للترجمة والتفاهم الدولي في دورتها الثامنة".
كَمٌّ كبير من المعرفة بتراث شرق المتوسط المعماري
خلال عام ونصف العام أنجزت ديانا دارك (1956)، كتاباً يُمكن عدُّه حصيلة كمٍّ عريض من المعرفة المعمارية منذ سبعينيات القرن الماضي، في شرق البحر المتوسط، حيث تقع جميع عجائب الدنيا السبع القديمة، وعيشها خصوصاً بين آثار سورية سنوات طويلة، سورية التي يُعتقد بأنّ أول كنيسة في العالم أُقيمت فيها سنة 231 للميلاد، وتقع قرب دير الزور.
"السرّاقون"
ويبدو أن عاصفة وسائل التواصل الاجتماعي أثّرت على خيار الكاتبة حين اتّخذت عُنواناً مشاغباً لكتابها. فالسرقة الأوروبية كانت من "الساراسن" وهي الصفة التحقيرية التي كان الأوروبيّون يُطلقونها على العرب المسلمين، منذ الحملات الصليبية، وهي من جذر لغوي عربي وتعني "السرّاقين". وهي هنا تريد "التعبير عن التناقض المضاعف بأننا في الغرب نسرق ممن اعتبرناهم سرّاقين"، كما ذكرت في مقدمة الكتاب. ولكنها في نهاية المطاف لا تبتغي "الردح" لسرّاقين سرقوا من سراقين، وليست هكذا قراءة في نيّاتها، ولا يهمّنا ذلك نحن القرّاء، بل إن الكتاب بالفعل وجبة معرفية رفيعة المستوى وغاية في الإمتاع. ويُمكن في سطر تلخيص مسار الكتاب بأنه لم يُوجد مجتمع منعزل "بل إنّ كلّ شيء متواصل ولا ينشأ من فراغ"، ومن الضروري عند الكاتبة رؤية الصورة الشاملة بدائريتها العامة، وإدراك أنّ كثيراً من العمارة الإسلامية قد نمت من التراث البيزنطي الأسبق، ومن تقاليد قديمة لمنطقة ما بين النهرَين.
كريستوفر رن
تعزز دارك أطروحتها بآراء قديمة لمن تصفه "أعظم مهندس معماري بريطاني" وهو السير كريستوفر رِن (1632- 1723)، الذي بنى أول كاتدرائية بروتستانتية في إنكلترا، وهي "كاتدرائية سانت بول"، التي ما تزال ماثلة تحفة معمارية في قلب مدينة لندن. وقد ولد رِن بعد 44 عاماً من وفاة المعمار سنان، وهو من تصفه أيضاً بأعظم معماري في تاريخ الإسلام. وشهادة رِن في ذلك الوقت المتعصّب دينياً تُعدّ استثنائية ومحلّ تقدير الكاتبة، حين قال إن "من الأصحّ أن يُسمى أسلوب العمارة القوطي بأسلوب الساراسن"، وهو لم يكن مُعجباً بهذا الأسلوب الذي رآه "مليئاً بالزخرفات المُفرطة والخيال المبالغ فيه"، وقرّر أن تصميمه للكاتدرائية التي استغرق بناؤها 36 عاماً، ينبغي أن يحمل معنى حقيقياً للمنظور والخطوط الواضحة والتناظر الجميل.
كتابة لا تستبطن مجاملة علمية ولا تُذعن لِهَوس القومية
ومع تقديرها للمهندس الأعظم، لكن ليس لديها متّسع للمجاملة العِلمية أو الإذعان للهوس القومي، إذ تقول إنّ رِن ذاته وهو لم يسرق من أسلوب المسلمين، إلّا أنه "سرق" مهاراتهم في إنشاء العقود والقناطر، مُستخدماً هذه الخبرة لتدعيم الوزن الهائل لقبّة سانت بول. وفي الحقبة ذاتها بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر سنكون أمام اسمين شهيرَين، الإيطالي مايكل أنجلو، والمعمار سنان في الدولة العثمانية، إذ استخدم أنجلو حين طُلب منه إكمال "كاتدرائية القديس بطرس" في روما، تقنية القشرة المزدوجة التي تُشبه كثيراً الطريقة التي استخدمت في بناء جوامع سنان المعاصرة له، وفي المقابل تُفيدنا الكاتبة بأن سنان أيضاً صرّح بأنه تعلّم من أسلوب بناء القبة في "كاتدرائية آيا صوفيا".
ملهاة التاريخ المقدّس
لعلّ الملهاة التاريخية تحضر على مسرحها، دائماً كلما قرّر التاريخيون أن تاريخهم مقدّس وَجَدّيّ. فقد زارت الباحثة عام 2019 معرضاً أقامه "المتحف البريطاني" بعنوان "استُلهم من الشرق". ولفتت انتباهها خريطةُ القدس من القرن الخامس عشر، وقد طُبعت على نطاق واسع، والتي تُظهِر جميع مواقع الحجّ المسيحية مشروحة باللاتينية، وقد طُمست فيها كلّ إشارة تدل على الحكم المملوكي الإسلامي في ذلك الزمن.
وحين تقول إنها ضحكت بصوت عالٍ، فذلك لأن قبّة الصخرة مكتوب تحتها "هيكل سليمان"، الاسم الموروث من الصليبيّين في القرن الثاني عشر، ولم تدرك الأجيال اللاحقة أنّ الهيكل كان مَعلَماً إسلامياً بُني عام 691 للميلاد، ونتيجة ذلك وإلى أن أدركوا الخطأ في القرن الثامن عشر، كانت الكثير من الكنائس والكاتدرائيات الأوروبية قد أنشِئَت على نمط إسلامي. لا بل إنّ الصليبيّين حين احتلّوا القدس ونسخوا قبّة الصخرة في تصميمات كنائس فرسان المعبد، قد نسخوا أيضاً آيات قرآنية في الكاتدرائيات الفرنسية، ومنها ما "يلوم المسيحيّين بوضوح بسبب إيمانهم بالتثليث بدل توحيد الله"، لأنهم ظنّوها لغة المسيح.
ادّعاء مُلكيّة
تأسيساً على هذا، تنفي دارك أنها تريد "تشويه سمعة العمارة الأوروبية وإنجازاتها البرّاقة الكثيرة"، بل إن غايتها تبيان أن أحداً لا يستطيع ادّعاء مُلكيّة العمارة، مثلما لا يستطيع أحد ادّعاء مُلكيّة العِلم، مُنتقدة مَيل المؤرّخين الأكاديميّين إلى التركيز على عصور بعينها، ما قد يقودهم إلى إهمال فترات أُخرى ذات صلة، ومن ذلك مثلاً، وجود تأثيرات إسلامية واضحة على نمط العمارة في فينيسيا "إلّا أننا نفضّل الإشارة إليها باسم النمط القوطي الفينيسي، بدلاً من قولنا النمط الإسلامي الفينيسي". كما أنها وقد شرحت التشابُه المعماري بين ساعة "بيغ بن"، والمئذنة السلجوقية في حلب، قالت إن هذا سيُثير دون شك صرخات اعتراض في غير مكان، مثلما تُثير مقارنتها بين المعماريَّين رِن وسنان.
وتخلُص أخيراً إلى أنّ زياراتها للكثير من الآثار في بلاد الشام وتركيا مكّنتها من "لمس حجارتها والتشبُّع برحيقها"، ما جعلها تنظر بإدراك عميق إلى الأقواس ثلاثية الفصوص، والنوافذ المُدبّبة في الكثير من الكنائس والكاتدرائيات، وسقف المروحة، ومواضع الجوقة ذات الخشب المحفور بإتقان والغنيّة بأغصان الكرمة المُلتفّة، والأوراق الرشيقة والفاكهة الناضجة، وبالتالي بتقدير عالٍ لِمَا يكمن وراءها وما الذي تمثّله.