ثمّةَ قصص نقرأها عندما نكون صغاراً، عادةً ما تكون مُختصرةً ومُعدّلة، لكنّها، مع ذلك، تجعلنا نستمتع بعالَم من الخيال والعجائب. ثم نكبر، وندرك فيما بعد أنّ خلف تلك القصص كان هناك كتبٌ كلاسيكية تستحقُّ أن نعودَ إليها، لأنّها، من بين العديد من الأمور، مليئةٌ بالقيم الأدبية والأبعاد الأخلاقية. قد يكون أحد أبرز هذه الكتب "مغامرات السندباد البحري"، تلك القصة التي قُدّمت تقليدياً على أنّها جزء من "ألف ليلة وليلة"، لكنّها، في واقع الأمر، كتابٌ مستقلّ تم إدخاله في سرديّات شهرزاد - وهذا ما يحدث عادةً مع الأدب الشعبي - من قِبَل ناسخ تركي، مطلع القرن السابع عشر.
هذا ما يقوله الباحث والمترجم السوري الأصل رينيه رزق الله خوام (1917 - 2004)، في مقدّمة ترجمته الفرنسية لكتاب "مغامرات السندباد البحري"، والذي صدر بالإسبانية مؤخّراً، عن دار "زيندا وديهيسا"، نقلاً عن النسخة الفرنسية الأوسع انتشاراً، والتي أعدّها وترجمها وقدّم لها الباحث عام 1985.
استناداً إلى مخطوطاتٍ قديمة، يستعيد المترجم في نسخته مغامرات البحّار الأسطوري الذي لا يهدأ، والتي نُقلت إلى السينما في مناسبات عديدة، حيث يكشف عن "السندباد الأصيل"، في زمن خلافة هارون الرشيد، حين شرع البحّارة العرب في الاكتشاف الجريء للمحيط الهندي وسواحله، ووصلوا إلى مدغشقر كما اخترقوا بحر الصين.
ميّز بين حكايات أصيلة وأُخرى دخيلة في "ألف ليلة وليلة"
وُلد رينيه رزق الله خوام في حلب عام 1917، وترعرع وسط عائلة مثقّفة، فقد كان أبوه شاعراً معروفاً، وواحداً من مُجدّدي الأدب العربي في سورية. بعد دراسته الأدبية في إحدى كلّيات بيروت الكاثوليكية، هاجر مع أسرته إلى فرنسا، بُعيد نهاية الحرب العالمية الثانية، وهُناك عُرف عنه أنه كان يرتاد يومياً قاعة "المخطوطات الشرقية" في "المكتبة الوطنية" بباريس، وبقي كذلك حتى عام 1999، حين قرّر التوقّف عن أعماله وبحوثه وترجماته التي كان يقوم بها، إثر حادثٍ تعرّض له.
يُعدّ خوام واحداً من أهم مُترجمي الأدب العربي إلى الفرنسية، ويشهد له الدور الذي لعبه في ترويج ونَشْر هذا التراث الإنساني والمعرفي في الغرب، خصوصاً في فرنسا، والترجمات الكثيرة التي قام بها لنصوص تراثية ودينية وأدبية، وقد يكون أهمّها ترجمتُه للقرآن التي أنجزها عام 1990، إضافة إلى نسخته المشهورة لكتاب "ألف ليلة وليلة"، والتي قضى أربعين عاماً في الاشتغال عليها، معتمداً على اثنتي عشرة مخطوطة قديمة، قبل أن تصدر أخيراً عام 1986، نسخة راجت في أوروبا كلّها، منذ أن عرّف بالعمل المستشرقُ الفرنسي أنطوان غالان (1646 – 1715)، مُترجماً إيّاه أوائل القرن الثامن عشر.
اختلفت نسخة خوام من "ألف ليلة وليلة"، عن بقية النُّسخ التي عُرفت في فرنسا والغرب عموماً، لأنه اعتمد على مخطوطة أصلية للكتاب تعود إلى القرن الثالث عشر، كما أنه لم يُقسّم نسخته إلى تلك الليالي الشهيرة، التي وكما يقول "ليست موجودة في النسخة الأصلية، تماماً مثل قصص علي بابا والسندباد وعلاء الدين". فمعظم هذه القصص نُقلت متأخّرة، في القرن السابع عشر، ووردت في نسخة "مطبعة بولاق الأميرية" بمصر.
إلى جانب ما سبق، ترجم الباحث العديد من الكتب الصوفية والتراثية، منها "الحبّ عند الصوفيين" (1960)، و"العرب والحياة في المجتمع" (1964)، و"كتاب الحِيَل" (1976)، فضلاً عن إنجازه ترجمة القرآن عام 1990، وبعد ذلك "قصص الإسلام" عام 2004. والجدير بالذكر أنّه نال عام 1996 "الجائزة الوطنية الكبرى للترجمة" في فرنسا، قبل أن يرحل عن عالمنا عام 2004، تاركاً وراءه إرثاً كبيراً من العطاء الثقافي والمعرفي والفكري.