السيّدة كينيدي والجمّال

11 يونيو 2024
حمّاد رند
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- آما تستيقظ مذعورة بقصة سرقة "معثكلتها"، مما يثير الدهشة والشكوك، وتنتهي الحادثة بإظهار هوسها بالحلويات.
- تتحول شهية آما للحلويات إلى مأساة حيث يجذب دمها الحشرات والطفيليات، وتظهر زارا، الطفلة ذات القدرات الخاصة، كمساعدة لها.
- الرواية تستكشف العلاقات الإنسانية والتقاليد الاجتماعية، مع تركيز على قصة زارا وعائلتها وتأمل في الصداقة والتغيير، مسلطة الضوء على قوة الإرادة.

مضتْ ليلى في حديثها: أتذكّر تلك الليلة بكلّ إشراق، فقد أفاقت آما في منتصف الليل وهي تصرخ بأعلى صوتها. هرعتُ إلى غرفة نومها لأجد بابا يُعنّفها ويتوعّدها ويهزّها بشكل مسعور. مع ذلك لم تكفّ عن الصراخ. وبعد صراخها قرابة نصف الساعة، بدا كأنّ حيلةً قديمة قد خطرتْ له. أدنى خفَّي آما من أنفها فأعادتها الرائحة السحرية إلى رشدها. وبعد وهلة صمت قالت: "منذ هنيهاتٍ دنَتْ إحداهنّ من سريري. لم أستطع تبيُّن وجهها لأنّها كانت ترتدي لفاعاً. وضعتْ يدها هنا"، وأشارتْ إلى بطنها. "انتزعتْ معثكلتي من جسدي، وخبّأتْها في مكان ما من هذه الغرفة قبل أن تغادر. لم أستطعْ إيقاظها أو فعل ما من شأنه أن يوقفها لأنّني كنتُ في حالة ذعرٍ قاتل".

رأى بابا أنّها كانت فكرة غير معقولة وطلب إليها أن تعود إلى رشْدها قائلاً: "مُعثكلتُك ليست حيث تشيرين". لكن آما أجابت بعناد: "انتزعتْ معثكلتي لكنّها لا تزال في مكان ما هنا. بالتحديد في هذه الغرفة"، وبقيتْ تُعيدُها بطريقة هستيرية. وفي النهاية رضخ بابا للأمر، فاستدعى الخادمات وطلب إليهن البحث تحت السجّاد وفي الخزائن التي لم تُفتح منذ عهد طويل. وبالتأكيد لم يكن هناك شيء غير عاديّ. طلب من آما أن تنام لكنها قالت وهي تئنّ: "لا أستطيع النوم. أريد أن أتناول شيئاً حلواً. أحضِروا لي شيئاً من الحلاوة الطحينية". وتلك كانت بداية هوس آما بالبودينغ والحلويات.

في كلّ صباح، كانت تُجمِّع حولها أكداساً من الحلوى والبودينغ الآتية من مختلف أنحاء العالم في صحن الدار بينما تُهَوِّيها إحدى بنات القرية بمروحة يدوية، وتلتهم بشراهة على مدار اليوم حلوى مختلفة - مولتاني سوهان وفطائر القلقند والهريسة والباتيسا شهبور وبقلاوة غازي عنتاب والرسقلة البنغالية وفطيرة يوركشاير بالشعير والعسل وعسل السماء الأصفهاني والنوغا الأكسيتانية وشطيرة ليمون فلوريدا الأخضر وكعكة الرافدَين المشغولة بنبيذ كاراسوسيا وبوظة هالو- هالو مانيلا وخليط كاتّو إيتون. وبدا أنّها فقدتْ مقدرتها على التحكّم في الأمر. وعندما كان بابا يُخفي حَلواها عنها أحياناً بدافع الانزعاج، كانت تندفع إلى حقول قصب السكّر وتمتصّ العصارة من عيدان القصب الناضجة. والآن، كما يسعك أن تتخيّل، أوصلَ هذا النهم السكّري إلى أن يصبح دمُها حلواً لدرجة غير مألوفة؛ حلواً للغاية حتى إنّها باتت القِبلةَ المفضَّلة لكلّ أنواع الهوام والطفيليات التي تمتصّ الدم من البعوض والبراغيث وفسفس الفراش والهاموش وكلّ ما يخطر على بالك.

وذات صباح، أفاقت على حكاكٍ شديد في الرأس، وكلّما حكّتْ أكثر، صار الحكاك أكثر إزعاجاً. حينها أيقنتْ والرعبُ يلفّها أنّ رأسها قد اجتيحَ بمستعمرة قمل هائلة. هرعتْ إلى الحمّام وغسلتْه بالزيوت والصابون والغَسول دون أن يغادرَها القملُ المعنّد. أخبرتْ بابا بالأمر، الذي أنّبها قائلاً: "عرفتُ أنّ ذلك سيحدث. لقد صار طعمُ دمك حلواً، فماذا تريدينني أن أفعل الآن؟".

لم يكن هناك من خَيار أمامَ آما الآن. وعليها أن تفتك بالحشرات واحدةً إثر أُخرى. قعدتْ أمام المرآة وحاولت أن تُفَلّيَ رأسها من راضعات الدم، لكنّها سرعان ما أدركتْ كم من العسير أن تجدَ مصّاصات الدماء خفيفات الحركة. وحتى اللحظة، كانت راضية للغاية إذ تركت الخادمات يعرفن أنّها، كطفل مشرَّد رقيع، تُؤمِّن الغذاء والمأوى للحشرات. لكنّها، هي نفسها، بينما تلمس عجزها المطبَق عن مواجهة الهوام، يتعيّن عليها التفكير في خيارات أُخرى. كان البديل أن تحلق شعرها لولا أنّ الأمر قد يثير شائعات كثيرة وإحراجات أكثر. لكن على الرغم من ذلك، عندما غضّت الطرْفَ عن كبريائها وندبتْ الآنسة للمهمّة، أثبتَ القملُ الزّريُّ أنه بدوره مراوِغ بارع لأصابعهما. كان ذلك عندما أحضرتْ أصالة، والدة زارا، ابنتها معها إلى باحة دارنا.

أوصلها النهم السكّري إلى أن يصبح دمُها حلواً لدرجة غير مألوفة
 

"يا صاحبة الفضيلة، لابنتي عينان ثاقبتان للغاية"، قالت أصالة باعتزاز وأردفت: "إنها شاطرة جدّاً في التعامل مع القمل، وكلّما زارتْ تلك الزاحفاتُ الملعونات رأسيَ، فإنّها تخلّصني منها". تطلّعتْ آما إلى الطفلة الضئيلة كمن لا يصدّق، لكن بسبب غياب أيّ خيار آخر، قرفصتْ باستسلام وقد أدارت ظهرها إلى زارا مُفَلِّيَةِ القمل التي قعدتْ في موضع يعلو رأس آما كي تراه بشكل أفضل. وفي قعدة الموضع العلْويّ المؤقّتة هذه عثرت على القمل بين الطيّاتِ الداكنة من شَعر آما، أمسكتْ باللصّة أثناء فرارها، وضعتها على ظفر إبهامها الأيسر، واستعملت نظيره الأيمن لسحق القملة. وفي غضون ساعاتٍ كان رأس آما نظيفاً.

أصبحت زارا بعد ذلك اليوم ضيفاً اعتيادياً على بيتنا، وكنتيجةٍ لعدد السنوات التي أمضيناها في هذا العالم، أصبحنا صديقتين مقرَّبَتين. كانت طفلةَ البهجة، التي ترقص وتتبختر على الدوام وتنقل عدوى بهجةِ الحياة إلى كلّ من يأتي في حضورها. فهي مقلّدة لا يُشقّ لها غبار، وتستطيع أن تُحاكي وتتشبّه بالعديد من الحيوانات والمشاهير بتلك الطريقة التي لا بَذْلَ فيها، وعلى نحوٍ لا يمكن للمرء أبداً أن يجدَ فرْقاً بين الطرفين. أحسَبُ أنّها لو وُلدتْ في ظروف محيطة مختلفة، لكانت قد أصبحت فنّانةَ صوتٍ عظيمة. لكنّ حظّها العاثر شاء أن تولد في قرية متخلّفة وفي عائلة ميراثية*. وظّفَتْها آما رفيقةً لي في اللعب، ما يعني أنّ والديها كانا يتقاضيان أجراً لقاءَ السماح لابنتهما باللعب معي.

تلك كانت أفضل سنوات عمري، وقد قضيتُها في اللعب على الأراجيح مع زارا. لكنّ علاقتنا كانت بالنسبة إلى أكثرية الناس مغرقة في الغرابة بسبب أوضاع عائلتينا بالغة التفاوت. فكما ذكرتُ آنفاً، كانت زارا ميراثية. وربّما يكون بعض الشرح ذا جدوى في هذا المقام. ولعلّكم تعلمون أنّ "الإنسان العاقل" في منطقتنا، شهبور- البنجاب، يُصنَّف إلى العديد من المقامات والمراتب الفرعية، وتُحدَّد هذه التصنيفات وفقَ المهنة التي اختارها أجداد أحدنا لكسب العيش في سالف الأزمنة. وقد تطوّرت تركيبةٌ مُحْكمة من التقاليد والتصوّرات النمطية حول هذه التراتبية التسلُّطيّة. وفي أسفل المراتب الإقطاعية والدينية التي لا بدّ أنّها تتربّع على قمّة هذا التسلسل الهرمي، تتجمّع فئات متنوّعة من الحِرَفيين المشتغلين في المهَن اليدوية.

غلاف الكتاب

وأمّا الميراثيّون الذين اختار أجدادهم مهنةً هي العزف على الآلات الموسيقية، فيتموضعون قلِقين في أسفل هذا التسلسل الهرمي. ويُقال إن كلمة mirassi (ميراثي) التي تعني "الوارث"، هي استذكار للموروث الموسيقي لهذه القبيلة. بل إنّ العامّة تميل إلى إطلاق الألفاظ التحقيرية عليهم مثل doon (الدُّوْن) أو الوضيع و kamin أو سافل. أمّا Kanjer أو Chengger، التي تعني في الأصل ساكن الأدغال وتُستخدَم اليوم لوصف مستحضِر الأرواح أو المشعوذ من الدرجة الثالثة، فهي الوصف الرائج الذي يُطلق على الميراثيين، والذي يتجاوز معناه الأصلي ليشمل كلّ المشتغلين في الموسيقى والاستعراض. أتذكّر أنّ أعمامي درجوا على القول: "قد يكون الـ Kanjers أغنياء لكنهم فقراء في الشرف وهذا ما لا يستطيع المرءُ شراءَه".

خلاصة القول، إنّهم محطُّ هزءٍ وممقوتون دون استثناء بسبب موهبتهم الطربيّة ولم يُعامَل ميراثيّو قريتنا، العائلة المكوَّنة من ثلاثة أفراد، زارا وأصالة ومسكين أب الميراثيين، بشكل يختلف كثيراً عن أبناء جلدتهم. ففي محافل القرية، حيث كان بابا يبتُّ في تلك المسائل الحيوية كتدريس أولاد القرية، كان مسكين يقتعِدُ الأرضَ دائماً، منسيّاً من قبَل الجميع، يرتدي لباسَ البوّاقين بلونيه الأحمر والأخضر الباهتَين- ما جعل أولاد القرية الخبثاء يلقبونه بـ hinduana أو البطّيخة- على مدار العام، وعمامة رمادية تلوح أجزاء منها كأنّها كانت بيضاء في زمن ما. وفي بعض الأحيان، كان الفتيان الأرذال يستفسرون ساخرين عن اللباس قائلين: "الحقَّ يُقال، كان جدّي يرتدي البِزَّة ذاتها في جيش الإنكليز"، ليردّ مسكين باعتزاز متجاهلاً نبرة الهزء لدى السائل: "كان نافخَ بوق في جيش الإنكليز".

لوعيهم العميق بالمكانة المتدنّية التي يحظى بها الموسيقيون ضمن الهيكل الهرَمي الاجتماعي، ولكي يتحرّروا من معاملة يسودها التهكّم والازدراء، بدأ ميراثيّو البنجاب وراجستان في النزوح غرباً على شكل هجرة جماعية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. عبروا بلاد فارس نافخين في أبواقهم وضاربين على طبولهم ليبلغوا مناطق سيطرة السلطان التركي، حيث تحوّل سكّان الأدغال إلى çingene غجَر، والذي تحوَّر أبعد من ذلك إلى الغجر/ القرباط tzigan بالهنغارية، أو zingaro بالرومانية، أو gitano بالإسبانية وباللغات المختلفة لأوطانهم الجديدة.

كانت سنتي العاشرة حين قرّر مسكين، ربما إحياءً ذكرى هجرة أسلافهم الجماعية أو تجنّباً لسلوك أترابهم القرويّين المشبع بالازدراء، أن ينتقل مع عائلته إلى الميناء البحري G. وذات صباح، اندفعتْ زارا إلى باحة دارنا وهي تلهث. قالت إنّ والديها قرّرا هجْرَ القرية وإنّها لا ترغب بالانتقال وتركنا جميعاً. صحبتُ زارا إلى بيتها، وهناك كانوا يقومون بتحميل أبواقهم ومزاميرهم على عربة يجرّها ثور. ثمّة جمْع من المتفرّجين ممطوطيّ الأعناق قد تحلّقوا حولهم، دون أن يخطو أحدهم ويمدّ لهم يد العون. شعرتُ بالأسى لعجزي عن ثنيِهم لكن ماذا يمكن لابنة عشر سنوات أن تفعل في تلك الحالة!

بعد سنوات قليلة من المعاناة، وجدت العائلة الميراثية موطئ قدم لها في حياة المدينة المزدحمة. ولكي يقطعوا كلّ الأواصر التي تربطهم بماضيهم، استبدلوا اسم العائلة باسمٍ آخر أكثر إرضاءً وأقلّ وضوحاً: آل شاه. والسيّد شاه، الذي شاء أن ينأى بنفسه عن كلّ ما قد يتقاطع مع مهنته القديمة، وجد عملاً، قائدَ جَمَل، على شاطئِ البلدة، حيث يأخذُ أولادَ سكّان المدينة في جولات على ظهر هذا الكائن النادر. وفيما بعد، عندما استفسرتُ منه عن سبب اختياره عملاً غير مألوف كهذا، وصف لي شخصاً ما يُدعى بشير أحمد بأنّه النموذج الذي يُحتذى به. وعلّل الأمر بأنّ بشير أحمد هذا كان أفضل قائد جَمَلٍ وحيد السنام في مدينة كراتشي عندما جاءت سيّدةُ أميركا الأُولى آنذاك في زيارة رسمية.

تدبّرت له ولجَمله تأشيرة إلى أميركا وهناك أصبح قائد الجمل لدى ملكهم

"كانت تُدعى جاكي، ولكي أكون صادقاً، ربما جيني، فلا أستطيع التذكُّر الآن، لكن ما أستطيع تذكّره أنها كانت ملكة أميركا، حيث يعيش رامبو". كان مسكين يحبّ أن يحكي هذه الحكاية بتأثّر. "وكانت بارعة الجمال، حتى إنّهم حين قدّموا لها كأساً من عصير الرمان، كان يمكن للمرء أن يرى السائلَ الأحمر أثناء مروره من خلال جلدِها الشّفيف، لماذا الكذب؟ ثم، ذات مساء، مضتْ إلى الشاطئ والتقت ببشير وجَمَلِه. ترك بشير انطباعاً طيّباً لدى السيّدة الإنكليزية برجولته ومهارته وكيفية وقوفه على ظهر الجمل وترنُّمِه بأغنياتٍ غزلية، وكان لكلّ هذا وقْعٌ طيّب لدى السيّدة التي لا يهمّ اسمُها، ولا أقول إلّا الصّدقَ، فتدبّرتْ له ولجمَلِه تأشيرةَ دخول إلى أميركا وهناك أصبح قائد الجمل لدى ملكهم.

لقد أصبحت جاكي مغرمة ببشير حقّاً، غير أنّها لم تستطع التعبير عن مشاعرها تجاهه بسبب التفاوت بين مركزيهما الاجتماعيين. ثمّ في يوم من الأيام، أطلق غريمٌ لزوج جاكي، الملك جون، النارَ عليه. كانت جاكي حزينة لكنّها سعيدة لأنّها أصبحتْ حُرّة في أن تكون مع بشير. ومع انقضاء أيام الحِداد والعِدّة، بعثتْ برسالة إلى بشير عبّرتْ فيها عن حبّها له. والآن، على الرغم من فخامة ورفاهية العالم الجديد، كان بشير يرزح تحت وطأة الحنين إلى الوطن. فخاطبها: "يا صاحبة الفخامة، أنا ممتنٌّ لك لما أسبغتِه عليَّ وعلى جملي. لكنّني أحنّ إلى الكاري الحارّ الذي تطهوه أُمّي. وإذا أردتِ الزواج منّي فعليك الانتقال معي إلى كراتشي".

والحُبّ أعمى كما يُقال. وهكذا تركتْ جاكي كينيدي حياتَها الفاتنة والمترفة وراءها وتزوجت من بشير أحمد ثمّ انتقلت معه إلى كراتشي. وقد نُميَ إليّ أنّهما يعيشان في كوخ صغير قريب من البحر، وتدرِّس أطفال الجوار الأبجدية الإنكليزية، وبهذه الطريقة يكسب العجوز وزوجته لُقمةَ العيش.


* الفصل السادس من رواية "أربعة دراويش"، ترجمه لـ"العربي الجديد": أحمد م. أحمد

** عاش ميراثيو البنجاب تحت وصاية السيخ في عهد المهراجا رانجيت سينغ، وعملوا منشدين تقليديين وعلماء أنساب وموسيقيّين، وأدّوا عروضهم في الحفلات العامّة والأماكن الصوفية في تلك الفترة


بطاقة

كاتبٌ ومترجم باكستاني- ويلزي من مواليد عام 1983. حاصل على إجازة في الأدب الإنكليزي والفارسي من "جامعة بنجاب" في باكستان، وماجستير في صناعة الأفلام من "جامعة كينغستون" في لندن. روايته الأُولى "أربعة دراويش" (الغلاف) صدرت عام 2021 عن دار "سيرين بوكس" وحقّقت نجاحاً لافتاً، وقريباً تصدر روايته الثانية. من ترجماته إلى اللغة الأردية، ديوان "حزن متشابك" (2022) للشاعر الهندي نافين كيشور.

أصدقاء لغتنا
التحديثات الحية
المساهمون