بين عامَي 2001 و2017، شغل جان بيير سيميون منصِبَ المدير الفنّي لمهرجان "ربيع الشعراء"، الذي سيتحوّل تحت عهدته (هو الذي استلم زمامه بعد ثلاثة أعوام من تأسيسه) إلى حدث شِعريّ بارز تشهده فرنسا كلّ عام، وتجري خلال فترة انعقاده، التي تقلّ عادةً عن الشهر، مئاتُ الفعاليات التي تدور في فلك الشعر، وتستضيفها مكتباتٌ ومدارس وجامعات وصالات عرض ومسارح ودور نشر ومواقع إنترنت، بل وحتى ساحات وشوارع وقوارب.
هذه التجربة، التي خاضها الشاعر الفرنسي (1950) في وقتٍ كان يلاحظ فيه تراجُع مكانة القصيدة في بلده عاماً بعد آخر، ستقوده إلى وضع مجموعة من الكتب التي دافع فيها عن أهمّية القصيدة وعن ضرورتها في حياتنا، اليوم وغداً، تماماً كما في الأمس؛ وهي أعمالٌ توجّه فيها إلى الكبار والصِّغار، حتى تحوّل في بلده إلى مرجعٍ في ما يخصّ الدفاع عن الشعر وقضيّته. ضمن هذا السياق يأتي كتابُه "الشِّعرُ الذي يُعاش"، الذي حرّره وصدر حديثاً ضمن سلسلة "فوليو" (لدى منشورات "غاليمار") المُخصَّصة للكتب التي يُمكن شراؤها بسعر زهيد بالنسبة إلى الفرنسيين (3 يورو).
لا نمنح شيئاً للشعر إلّا ويُعيده إلينا أكبر ممّا منحناه بمئة مرّة
وإذا كان آخرُ كتابين له في هذا الصدد ــ أي "مديحٌ مقتضَب للشعر" (2022) و"الشعر سيُنقذ العالَم" (2015) ــ قد جاءا في صيغة مُرافعةٍ شخصية، لسيميون نفسه، عن الشعر ومكانته في حياة البشرية، فإن الشاعر والمؤلّف المسرحي يترك الكلام في عمله الجديد لشعراء آخرين عرفوا الشعر عن قُرب بما يكفي ليتكلّموا عنه ويعرّفوا القرّاء بجوهره وحاجتنا إليه، ليس فقط كموضوع للقراءة، بل كغرض وسبب للعيش، كما يُخبرنا عنوان الكتاب.
يضمّ الكتاب تسعة عشر نصّاً لمثل ذلك العدد من المؤلّفين (من بينهم سيميون نفسه) الذين نجد بينهم أسماء مثل آرتور رامبو، وسان جون بيرس، وفرجينيا وولف، وإيف بونفوا، ولويس أراغون، وكذلك راينر ماريا ريلكه، وأندريه شديد، وبول فاليري، وفيليب جاكوتيه، وجاك كيرواك.
أغلب هذه النصوص مقالاتٌ وشذرات، فيما قسمٌ منها استقاه المؤلّف من رسائل شعراء وكتّاب، بل وحتى من قصائدهم. مِن هؤلاء المؤلّفين، مثل فاليري وبيرس وبونفوا، مَن يميّزون الخطاب الشعري عن ذلك الفكريّ والمفاهيمي، بالقول إنه خطابٌ يتعلّق بالحضور، بحضورنا في هذه الحياة، بما فيه من ملموس ومحسوس ومرغوب.
ومنهم مَن لا يتردّدون بتلخيص نظرتهم إلى الشعر، كما هو حال ريلكه، في هاتين الصفحتين اللتين يلتقطهما سيميون من روايته "مذكّرات مالته لوريدز بريغه"، حيث يتحدّث على لسان بطله هذا قائلاً إن "الشعر لا علاقة له بالمشاعر، كما يُخيَّل إلى البعض، بل بالتجارب. كي تكتب سطراً واحداً عليك أن تكون قد شاهدتَ كثيراً من المدن والبشر والأشياء، أن تعرف الحيوانات، وكيف تُحلّق الطيور، وأن تعرف ما تفعله الزهراتُ الصغيرة من حركات عندما تتفتّح في الصباح".
ومنهم أيضاً، مثل أندريه شديد، مَن يحدّثوننا عن معنى العيش في الشعر وبه. تكتب شديد، ذات الأصول السورية اللبنانية، في مطلع النصّ الذي يقتبسها منها سيميون: "لا نمنح شيئاً إلى الشعر إلّا ويُعيده إلينا أكبر ممّا منحناه بمئة مرّة. إنّنا نعتقد أنّنا نصنع الشعر، لكنّه، سرّياً، هو الذي يصنعنا".