استمع إلى الملخص
- يتناول المعرض تأثير الحرب والتوسع الاستيطاني على الخليل، مع لوحات بارزة مثل "هندسة الهيمنة" و"سباق نحو النسيان"، التي تصور التوسع العمراني العشوائي والتحديات التي تواجه المدينة.
- اختار الشرباتي الكهف كمساحة بديلة، معبراً عن الحاجة للبحث عن بدائل في ظل الإشكاليات، حيث يُستخدم الضوء لإبراز اللوحات وتجربة الظهور والاختفاء.
في كهف قريب من مرسمه، دلَّ على وجوده قبل سنوات كلبٌ مشاكس كان يسرق أحذية الجيران ويخبّئها فيه، وجد الفنان الفلسطيني راني الشرباتي مساحة بديلة لعرض أعماله الفنّية أخيراً لجمهور مدينة الخليل المتعطّش لمواكبة حركة فنّية وثقافية بدأت تنمو في عاصمة فلسطين الاقتصادية، يقودها ناشطون شباب يبدعون في مجالات مختلفة.
افتُتح المعرض الذي يضمّ سبعة عشر عملاً فنّياً، ويُختَتم اليوم الخميس، تحت عنوان "الظهور والاختفاء"، وبإشراف قيِّم المعرض الفنّان عز الدين الجعبري الذي ساهم إلى جانب ذلك في تقديم عمل تركيبي مع الشرباتي بينما كانت بقيّة الأعمال لوحات فنّية تعكس أشكالاً مختلفة للتغيّرات الكبيرة التي تمرّ بها المحافظة الجنوبية على مستويات اجتماعية وسياسية وعُمرانية، ملخّصةً بمصطلحي "الظهور والاختفاء" إشارةً إلى ما يظهر ويختفي من قلب المدينة، سواء ما يُلاحظه ساكنُها، أم ما يحدث على مهل بعيداً عن إدراكه وهو منغمس في حياته اليومية.
وفي حديثه إلى "العربي الجديد" أشار الشرباتي إلى أنّ "عملية الظهور والاختفاء قد تأخذ سنوات طويلة، لأجل ذلك تحدث أحياناً بدون شعور أهل المدينة، لأن السكان هم جزء من نفس التجربة، هم من عناصر عملية الظهور والاختفاء، لذا يصعب ملاحظة التغيير". بهذا يقدّم المعرض "تغريباً" بمفهوم بيرتولت بريخت، حيث تُنقل المظاهر اليومية المعروفة وتُوضع على خشبة المسرح أو منصة العرض، ليتمكَّن من يعيشها من فهمها والتفكير فيها.
الكهف ليس خياراً عبثياً بل يتلاءم مع طبيعة المعرض
وهو ما عبّر عنه عز الدين الجعبري في كلمة نشرها بعد افتتاح المعرض، يقول فيها: "عندما بدأتُ مع راني الشرباتي هذه الرحلة، لم تكن فكرة 'الظهور والاختفاء' مجرّد مشروع فنّي، بل كانت محاولة لفهم علاقتنا بمدينة تتغيّر باستمرار، مدينة تُحاول أن تظهر في الوقت الذي تُمحَى فيه ملامحُها. مع كلّ خطوة، كانت هناك أسئلة أكثر من الإجابات، وكان الفن نافذتنا التي نستطيع من خلالها تفكيك هذا الواقع المعقّد".
ويلفت الشرباتي إلى أن أغلب الأعمال المعروضة قد أُنتجت قبل حرب الإبادة التدميرية في غزة، وإلى أن مصطلحي الظهور والاختفاء بعد الحرب قد أخذا منحنى آخر تماماً، إذ صار التغيير صادماً ومفجعاً، بينما نتجت أغلب أعماله في حالة مختلفة من الإبادة تتبعها سلطات الاحتلال في مدينة الخليل المحاصرة من الداخل والخارج بالمستوطنات ونقاط التفتيش.
البؤر الاستيطانية وجدار الفصل العنصري هي ثيمة أساسية تتكرّر في أغلب الأعمال المعروضة، حتى ولو لم تظهر فيها، فهي تُظهر التكدُّس الإسمنتي لمدينة صارت تتوسع أفقياً بسبب استيلاء الاحتلال على مساحات واسعة منها، وغلق أهم شوارعها التي كانت قبل زمن غير بعيد أكثرها حيويةً، ما يمنع المدينة من أي تطوّر عمراني طبيعي، ويجعلها ضحية لـ"هندسة الهيمنة" وهو عنوان إحدى اللوحات المعروضة والتي تظهر مجموعةً من المباني العشوائية مركَّبة على شكل طائرة تحلق فوق المدينة، كأنها تنقل الحجارة وتسد الفراغات.
أما لوحة "سباق نحو النسيان" فتُظهر تنافس مباني السكّان الأصليّين "في سباق محموم نحو الأعلى" حيث "تلتصق ببعضها، تتسلّق في صمت وكأنها تحاول النجاة من الجدار في الأسفل"، كما جاء في توصيف اللوحة التي تصوِّر مدينة محاصرة بجدار الفصل العنصري، ترتفع المباني في جانبها الأيمن وتتطاول، بينما تلتصق بها مبانٍ أُخرى كأنها تريد اللحاق بها.
هذه المباني تهرب في استطالتها العبثية من "أطلال الوهم"، عنوان اللوحة التي تليها، وتظهر بقرةٌ حمراء بقُرون تحمل في بطنها مستعمرة إسرائيلية، بينما تدوس بحوافرها مدينة تاريخية تُشبه مبانيها دُورَ الخليل القديمة، هذه اللوحة التي بدأ الشرباتي العمل عليها بعد الحرب، حين أخذ يصبّ تركيزه أكثر على التوسُّع الاستيطاني الذي صار أكثر حضوراً، وتمثّل هذه اللوحة، كما يقول الشرباتي لـ"العربي الجديد"، أول عمل فني يتناول فيه مستوطنة إسرائيلية.
وعن سبب اختيار الكهف كمساحة بديلة عن الغاليري أو المتحف لعرض هذه الأعمال، أشار الشرباتي إلى أن فكرة "المعارض البديلة" قد رافقته في محطّات مختلفة كان آخرها رسالة تخرّجه من جامعة "دار الكلمة" في بيت لحم بعنوان "آفاق توظيف الذاكرة والمكان في إقامة المعارض الفنية البديلة في فلسطين"، وسؤال البديل حسب الشرباتي هو مسألة فلسطينية بامتياز "الفلسطيني دائم البحث عن البدائل، بديل في الموادّ، بديل في مكان العرض، لأسباب كثيرة، كل حياتنا نبحث عن بدائل، إشكاليات سياسية واجتماعية وثقافية".
البؤر الاستيطانية وجدار الفصل العنصري ثيمتان أساسيتان
من هذه الإشكاليات تأتي طبيعة مدينة الخليل، التي يغلب فيها تفضيل الاستغلال "المُنتِج" اقتصادياً للمنشآت والأراضي، فيقلّ الاهتمام بإيجاد مساحات للفنون والثقافة، مع غياب دور المؤسسات الرسمية والأهلية، مع الوجود الخانق لجنود الاحتلال ومستوطنيه في قلب المدينة وسيطرتهم على أهمّ مناطق البلدة القديمة، ويروي الشرباتي قصة أول معرض فردي قدّمه في مدينة الخليل والذي تمّ في أحد الحمّامات القديمة التي بناها العثمانيون وقد تم الاكتفاء بجعله معرضاً فنّياً ليوم واحد وذلك بسبب صعوبة الإبقاء على الأعمال الفنّية لأكثر من يوم في موقع عالي الرطوبة، ولأن في الحمّام باباً يؤدي إلى بيت استولى عليه مستوطن إسرائيلي قد يتسلل إلى المكان ويدمر محتوياته ليلاً.
لكن التحدّيات المرتبطة بمكان العرض بحسب ما يلفت الشرباتي لا يُواجهها الفنّان الفلسطيني وحده بل "إن الحاجة للبحث عن أماكن بديلة صارت حاجة عالمية خصوصاً للفنّانين الذي يبحثون عن استقلالية وحرّية أكبر بعيداً عن أجندات المعارض والمتاحف"، ما يجعل ظاهرة المعارض البديلة "ظاهرة حداثية ومعاصرة بامتياز" حسب تعبيره.
ومع الحاجة إلى إيجاد هذه المساحات البديلة واستغلالها تبقى ضرورة ألا يكون اختيارها عبثيّاً بل مرتبطاً بطبيعة المعرض والأعمال الفنية المعروضة فيه، لهذا جاء اختيار الكهف كونه مساحة "مخفية" عن مُحيطها، معتمة لا "يظهر" منها إلا ما يريد القائمون على المعرض إظهاره للزوّار بالاستخدام المُحكم للضوء لتبرز اللوحات بألوانها الرمادية والزرقاء في تبايُن مع الألوان الطبيعية للكهف. حتى تجربة الدخول إلى المعرض/ الكهف يراها الشرباتي امتداداً لمفهومي الظهور والاختفاء، حيث تختفي المدينة خلف جدران الكهف، فلا أُفق ولا سماء، ثم تظهر الأعمال الفنية، والتي تمثّل انعكاساً لما هو خارج الكهف، تأويلاً مكثّفاً وتغريباً كاشفاً.