"الفردوس المفقود": سرديات أندلسية خارج النظرة الذكورية

22 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- ارتبطت السردية التاريخية للأندلس بأسطورتين نسائيتين، فلوريندا وثريا الرومية، مما يُظهر دور المرأة في الأحداث التاريخية الكبرى ويُخفي الأدوار المتنوعة للنساء في المجتمع الأندلسي.
- تُظهر الدراسات الحديثة، مثل كتاب "نساء الأندلس"، أن النساء كنّ فاعلات في السياسة والعلوم والثقافة، مما يدعو لإعادة قراءة التاريخ الأندلسي من منظور نسوي.
- الرؤية العربية التقليدية تركز على الماضي، بينما تتبنى إسبانيا رؤية متجددة تدعو لإعادة النظر في السرديات التاريخية لإبراز التنوع والأدوار النسائية.

ارتبط حضور المرأة في السردية التاريخية الإسلامية - العربية بخطاب الخروج من المكان المقدّس؛ سواء كان هذا الخروج من فردوس السماء، حيث كان الرجل (آدم) برفقة المرأة (حوّاء)، وسبّبت هذه الأخيرة، بشكل ما، طَرْدَه من الجنة، أم كان هذا الخروج من "فردوس" الأرض: الأندلس.

لسنا بصدد الحديث عن الخروج - الطرد الأوّل. أمّا في ما يتعلّق بالخروج الثاني، فقد قام الخطاب التاريخي الذي تناول الأندلس، بشكل أساسي، على الأسطورة. وقد لا يكون من باب المصادفة أنّ علم التأريخ العربي الإسلامي قد ذكر، على وجه التحديد، أسطورتين نسائيّتين لـ "بدء" تاريخ الأندلس و"طردنا" منه.

أمّا عن الفتح، فقد كان عند فلوريندا، ابنة يوليان حاكم سبتة. المرأة التي لعبت دوراً مركزياً في سقوط مملكة القوط الغربيّين في إسبانيا عام 711. تقول القصّة إنّ الملك القوطي الغربي رودريغو، شاهد فلوريندا تستحمّ في نهر تاجة (خارج طليطلة)، وبعد ذلك اغتصبها، وتركها حاملاً. ما دفع والدها إلى الانتقام، طالباً مساعدة جيوش المسلمين بقيادة طارق بن زياد وموسى بن نصير. وفي نهاية المطاف هزيمة رودريغو وبداية التاريخ الأندلسي. لقد كانت فلوريندا- المرأة سبب سقوط مملكة القوط ووقوعها في يد العرب المسلمين!

ظلّت سردية الأندلس ذكورية في جانبيها العربي أو الإسباني

وعلى غرار البداية، كانت النهاية أيضاً مرتبطةً بثريا الرومية. كما يُذكر اسمها في بعض المصادر العربية. وهي إيزابيلا دي سوليس. المرأة التي أُخذت أسيرة في إحدى المعارك. سُمّيت ثريا وألحقت وصيفةً داخل قصر الحمراء. سحرت بجمالها الآسر أبا الحسن، ملك غرناطة، فتزوّجها واصطفاها على زوجته. بعد ذلك لعبت دور البطولة في مؤامرات كبيرة لإنهاء حياة أبي عبد الله وحكمه، وكانت مسؤولة عن إنهاء مملكة غرناطة ووضع نقطة النهاية على قصّة الأندلس.

هاتان الأسطورتان الأنثويتان ليستا سوى "الألفا" و"الأوميغا" في تاريخ الأندلس؛ أي سبب ونتيجة مسار اجتماعي غنيّ ومعقّد للغاية مثل المسار الأندلسي. لكنّهما، لا تجسّدان، سوى قمّة جبل الجليد الذي ظلّ جسده الأنثوي مطموساً في ثنيات مصادر العصور الوسطى العربية والإسبانية لعدة قرون، حيث حُجبت نساء متنوّعات للغاية، صنعن التاريخ أيضاً، وكنّ فاعلات في جوانب الحياة المتعدّدة: الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والاقتصادية، والتجارية، والحربية، والفكرية، والعلمية، والثقافية والمعمارية.

وبالعودة إلى المصادر والسرديات التاريخية الأندلسية، يمكن أن نلاحظ بسهولة الحقيقة التالية: سردية الأندلس ذكورية بامتياز، سواء من الجانب العربي أو الإسباني. وفي حال تضمّنت أيّة إشارة إلى النساء، فهي في غالبيتها تدور في فلك الرجال، أو في أحسن حال تقتصر على الطبقات المسيطرة والحاكمة، متجاهلةً بالكامل ثراء المجتمع الأندلسي، وتعقيداته، وتعدديّته.

ماذا عن نساء الأندلس؟ من كنَّ؟ وما دورهن؟ وكيف كنّ يفكّرن؟ وهل أسهمن حقّاً في بناء الأندلس؟ وهل يجب الحديث عن المرأة أم النساء في الأندلس؟ هي تساؤلات يطرحها اليوم في إسبانيا العديد من الباحثين والباحثات المتخصّصين في الدراسات الأندلسية. وقد يكون كتاب "نساء الأندلس"، للباحثة مانويلا مارين، الذي صدر لأوّل مرّة عام 2000 في إسبانيا، وتصدر الشهر القادم طبعة جديدة منه، الأساس الذي يستند عليه كثير من الباحثين من الجيل الجديد في محاولاتهم خلق سردية جديدة عن الأندلس تختلف جذرياً عن السردية الذكورية الراسخة.

تدعو مانويلا مارين في كتابها إلى العودة إلى السرديات التاريخية الأندلسية الراسخة وإعادة قراءتها، والبحث فيها، وإعادة تفسيرها وكتابتها بما يتناسب مع تطوّر المجتمعات، وتطوّر دراسات النوع الاجتماعي، وتقدّم العلوم، وانتشار التكنولوجيا، منطلقة من مجموعة من النقاط والأفكار التي يمكن تلخيصها كما يلي:

- عند البحث في المصادر التاريخية سنلاحظ وجود حركة نسائية هامّة على مدى ثمانية قرون، ولا يمكن فهم تاريخ الأندلس من دون الحضور النسائي فيها. وليست المسألة موضوعاً كميّاً. إنّه وجودٌ نوعيٌّ تَجسّد في أشكال مختلفة وأدوارٍ تأسيسية لتلك الفترة الزمنية.

- ثمّة الكثير من المعلومات في المصادر الأندلسية عن النساء الحضريات من الطبقة الثرية، أكثر بكثير عن النساء في المناطق الريفية. ولا تشير المصادر التاريخية العربية أو غير العربية إليهن، إلّا في ما ندر.

- غالبية المصادر التاريخية الأندلسية كتبها الرجال. وهذا طبيعي في المجتمعات التقليدية، لكنه يكشف سبب مرور النساء على مدى ثمانية قرون كـ"نسمة خاطفة" أو كـ"سبب خاصّ".

- نَسبت الثقافةُ السائدة في العصور الوسطى إلى المرأة دوراً منزليّاً بشكلٍ رئيسي. ولكن، يمكن الحديث عن نساء تمكّنّ من كسرِ هذا المشدِّ الأبوي والاجتماعي، وعملن في حقول العلوم والثقافة في الأندلس. وقد مارسن أدواراً سياسية بارزة، رغم استياء الرجال ومعارضتهم الأمر. مثال على ذلك، والدة هشام الثاني وزوجة الحكم الثاني، التي كان اسمها صبح، وحكمت الأندلس إلى جانب المنصور قرابة عشرين عاماً. حصل هذا الأمر أيضاً في الممالك المسيحية الشمالية، وخير مثال على ذلك الملكة كاثرين.

- تميّزت المرأة المسلمة من المرأة المسيحية في العصور الوسطى بأوروبا، حيث تمتّعت بالاستقلال الاقتصادي في المجتمعات الإسلامية. 

- تفوّقت المرأة الأندلسية في مجالات الشعر والفن والغناء والأدب والقانون والخطّ والسياسة والسلطة، رغم محاولات تحييدها وإخضاعها لسلطة الرجل.

تُبيّن هذه الأفكار التي تُطوّرها الباحثة الإسبانية وتضعها في سياقها التاريخي وتُحلّلها بموضوعية ضرورة إعادة دراسة التاريخ الأندلسي، وإخراجه من السردية الذكورية المُسيطِرة عليه. وهي سردية كتبها رجالٌ بقيت في مجتمعات، رغم تطوّرها حضارياً وثقافياً، رهينة التقاليد، والأعراف، والدين، والعادات، والذكورية، والأبوية. وليس من باب المصادفة أن تُربط سردية الأندلس، بدايةً ونهاية، بخطيئة المرأة، تماماً كقصّة الخلق نفسها، التي ارتبطت بخطيئة أمّنا حواء التي أنزلتنا من الفردوس إلى الأرض. إنّها المرأة مرّة أُخرى، تطرد المسلمين من "الفردوس المفقود": الأندلس!

وجود نسائي نوعيّ تجسّد في أشكال مختلفة وأدوار تأسيسية
 

ما يلفت الانتباه هو أنّه مقابل الرؤية العربية الثابتة للأندلس، والتي لا تنظر إليها إلّا من نافذة الماضي، ومن نافذة الأسطورة، أو في أحسن الأحوال كفردوس مفقود نقف على أطلاله كي نبكيه ونستذكره، تنشأ في إسبانيا رؤية متحوّلة عنها، تضفي عليها طابع الرمز أكثر من طابع الأسطورة. الأسطورة شيء، والرمز شيء آخر تماماً.

إنّ الامتداد الأسطوري للأندلس في المخيّلة العربية هو الذي سبّب ثبات هذه الرؤية، وهذا ما أدّى إلى غياب مثل هذه الكتب التي تعيد بناء سرديات الأندلس انطلاقاً من التغيّرات الاجتماعية والسياسية والثقافية الراهنة. في الأندلس، رمزاً أكثر منها أسطورةً، ما يتخطّى كلّ حدود، ما يتخطّى كلّ هوية وإرث، حيث تُمثّل الأندلس عملاً مفتوحاً يتجدّد مع كلّ قراءة، في ما وراء الأيديولوجيات والسياسة، في ما وراء السرديات الوطنية أو الحماسية. وهذا العمل خُلق جمعاً لا فرداً.

من هنا، لا بدّ من إعادة النظر عربياً إلى الأندلس بعيداً عن السرديات الوطنية، أو سرديات الأسطورة، أو سرديات الذكور. ربّما في هذا يكمن سبب العجز عن خلق أنموذج للحضارة الأندلسية في البلاد العربية؛ لأنّنا لم نستطع أن نُخرجها من الرؤية التقليدية للماضي.

في التاريخ كما في الحياة، لا يتوقّف الأمر على تصميم إرادتنا فحسب، وإنّما يجب قبول مجريات الحقب التاريخية ومقتضياتها. إذا كانت الحقبة الأندلسية ذكورية، وكُتبت بريشة الرجال، فلماذا لا نحاول اليوم أن نقرأها من منظور نسوي؟

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون