تمرّ، اليوم الإثنين، ذكرى انقضاء عقدٍ على انطلاق الثورة السورية، وما كان مأمولاً منها وفيها، فكريّاً، ما يزال كذلك: موضوعاً للأمل. أملٌ تبدو عتَباته بعيدةً نسبياً، رغم الخطوات التي سِيْرت وتُسار في اتّجاهه. بعد عشر سنوات، تبقى حصيلة الثورة، على المستوى الفكريّ، ضعيفةً نسبيّةً، أو ضعيفة بما كان ينتظره كثيرٌ من السوريين. ليست ضعيفةً كمّاً: الكتب والتحاليل والمقالات التي يوقّعها سوريّون كثيرة. ومعها الطموحات والمشاريع والقِيَم والشعارات ــ وهي أيضاً شيءٌ ثقافي وفكريّ. الضعف يُصيب التميّز والنوعيّة، يصيب المضمون والمجيء بمقولات جديدة، ويصيب كذلك العمل الجماعي، وتحقيق الطموحات والمشاريع.
ثمّة مَن يقول إنّ الثورات كذلك، تحتاج سنوات (أكثر من عقدٍ واحد) لتنضج ثمارها. ثمّة مَن يربط هذه القلّة بشروط السوريين المنتمين إلى الثورة ــ بمن فيهم المثقّفون ــ، والتي لا تتناسب مطلقاً مع شروط الشغل الثقافي: نزوح داخل البلد أو على حدوده؛ منفى وهجرة؛ لا استقرار؛ سكنٌ مؤقّت؛ أوراق مؤقّتة؛ انشغالٌ بأوراق الإقامة واللجوء، بالأمراض والكآبة والقلق وتبِعات ما بعد الصدمة، بالبُعد عن الأرض الأولى واللغة الأولى والوجوه والأصوات الأولى؛ انهماكٌ بالحياة واللغة الجديدتين ومتطلّباتهما. ثمّة مَن يرى أنّ في الأمر يداً لحُكْم النظام وطبيعته، ونفاذهما إلى بُنى المجتمع السوري وتأثيرهما في أساليب عمل السوريين وتفكيرهم، بما يعني أنّ امتلاك لغةٍ وخطاب جديدين، متخلّصين من تأثير النظام، يتطلّب وقتاً. وثمة مَن يحيل الأمر إلى تقاعس "العالَم" وعدم وقوفه إلى جانب سورية وتهيئته ظروفاً أكثر مناسَبةً لتحقيق السوريين ما طمحوا إليه في بدايات الثورة.
أيّاً يكن، يمرّ اليوم عقدٌ على بداية الثورة ونحن بعيدون عن تحقُّق مقولاتها الفكريّة الأولى، التي جاءت بصورةٍ سياسية: حرية وبس، ديمقراطية، لا طائفية، عدالة، حقوق. كما أنّنا بعيدون عن الوقوف على منتجات سورية تضيء تلك المقولات الأولى، تفكّر بها، وبحامليها، تعيد بناءها نقديّاً، تهيّئ لإمكانية تحقّقها، أو تشرح عدم تحققها (حتى الآن)، وتُعْلمنا أكثر عن سورية والسوريين، عن المجتمع وثقافته وعمّا يعتمل فيهما من أزمات ومشاكل، أو ما يكم فيهما من وعود لتحسّن قريب.
حصيلة فكريّة معقولة كمّاً، وضعيفة نوعاً وتميُّزاً
يمثّل الفكر واحداً من أكثر حقول الاشتغال الثقافي السوري فقراً في يومنا هذا. مكانه الفارغ هائلٌ منذ بدء الثورة. نقصٌ يدفع البعض إلى التساؤل: هل تفكّر سورية حقّاً، اليوم؟ منذ 2011 وحتى اليوم، بالكاد نعدّ على الأصابع العناوينَ التي يمكن النظر إليها باعتبارها إضافةً إلى المكتبة الفكرية السورية، العربية أو العالمية. مَن يُرِدْ معرفة شيء معمّقٍ عن سورية، عن مجتمعها وتاريخها وثقافتها، وحتى عن بُنية النظام السوري، يقرأْ أعمالاً وضعها أشخاص غير سوريين، غربيّون في الأغلب، وعرب. الأشخاص الذين يُؤخَذ بخرائطهم لسورية على شاشات التلفاز وفي الجرائد، في مراكز الأبحاث والجامعات، ليسوا بسوريّين. والذين يشكّل تحليلهم لخمسين عاماً من دكتاتورية النظام مرجعاً للباحثين والقرّاء، ليسوا بسوريين أيضاً، في أغلبهم. وحتى هؤلاء الذين يعطوننا مقولات جديدة عن المجتمع السوري، عن تقاليده وأنماط عمله وعيشه ومقاومته غير المباشرة، أو تعامله، مع سُلطة النظام، هم في الأغلب غربيّون وعرب.
ترنّ هنا أسماء رايموند هينوش، وليزا وادين، وميريام كوك، وميشيل سورا، وليلى هدسون، وستيفان وينتر، وآن بوجو، وديفيد ليش وغيرهم، غرْباً. كما تحضر، عربياً، أسماء عزمي بشارة، وإليزابيث سوزان كسّاب، ووجيه كوثراني، وزياد ماجد. بعبارة أخرى: مراجعُ سورية الفكرية تأتي بالأغلب من خارجها. رفوف الأبحاث الاجتماعية السورية، الجادّة، من علم الاجتماع إلى الأنثروبولوجيا والإثنولوجيا والجغرافيا، شِبه فارغة خلال العقد الماضي. والحال ينطبق أيضاً على الفلسفة والجماليات. ربّما كان التاريخ حقلاً يُستثنى هنا، إذ كُتب فيه ونُشر، أو أعيد نشْرُ، العديد من العناوين التي تستحقّ التذكير بها والعودة إليها.
من الأمثلة، في هذا المقام، كتابا محمد جمال باروت "العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح" (2013) و"التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية: أسئلة وإشكاليات التحوّل من البدونة الى العمران الحضري" (2013)؛ وكتابا عبد الله حنّا "صورٌ من حياة مجتمعات سورية القرن العشرين ــ جمعها الدارسون في المعهد النقابي بدمشق" (إعداد، 2019) و"صفحات من تاريخ الأحزاب السياسية في سورية القرن العشرين وأجواؤها الاجتماعية" (2018)؛ وعمل شمس الدين الكيلاني "مدخل في الحياة السياسية السورية: من تأسيس الكيان إلى الثورة" (2018)؛ وكذلك "الموسيقى التقليدية في سوريا" (2018) لحسّان عباس؛ و"قصّة حزب العمل الشيوعي السوري: 1976 ـ 1992" لراتب شعبو (2019)؛ إضافة إلى اشتغالات تيسير خلف التأريخية والتحقيقية، مثل عملَيْه حول أبي خليل القبّاني (2018)، وكتابيه الآخرين "الرواية السريانية للفتوحات الإسلامية" (2016)، و"الحركة النسائية المبكّرة في سوريا العثمانية: تجربة الكاتبة هنا كسباني كوراني 1892 – 1896" (2019). كما شهد العام الماضي صدور ترجمة كتاب المفكّر السوري الراحل، إدمون رباط (1904 ــ 1991)، "تطور سوريا السياسي في ظل الانتداب"، عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، الذي صدرت لديه أيضاً غالبية الأعمال التاريخية المذكورة.
خارج الحقل التأريخي، إذاً، لم تشهد السنوات الماضية ظهور الكثير، أو الكافي، من أعمالٍ سوريّة جديدة تحمل مشاريع تفكّر بالبلد أو انطلاقاً منه، أو تفكّر حتى بشيء آخر غيره. وكأنّ الحال يقول إن سورية لم تعد تنتج فكراً منذ أصدرت أسماءٌ مثل صادق جلال العظم، وجورج طرابيشي، والطيب تيزيني، وبرهان غليون، آخر أعمالها. رغم ذلك، نتمنّى أن يكون الواقع معاكساً لهذا القول. من الاستثناءات الفكرية القليلة، منذ بدء الثورة، ما وضعه ياسين الحاج صالح وسلامة كيلة (وهو سوريٌّ بالإقامة لعقودٍ في البلد، كواحد من أبنائه، وبالانخراط بالثورة وبالكتابة عنها)، المختلفان إلى حدّ بعيد على مستوى الأدوات النظرية. ولا نشير إلى هذين الكاتبين لمجرّد إصدارهما كتاباً أو اثنين منذ بدء الثورة، بل لأن كتاباتهما شفّت عن مشروع فكريّ حاول مرافقة الثورة تحليلاً وشغلاً مفاهيمياً، وسعى إلى إعادة خلق نفسه انطلاقاً منها ــ وهو ما يبدو نادراً في كتابات السوريين اليوم.
حقل التاريخ واحدٌ من الاستثناءات التي شهدت أعمالاً بارزة
طوّر الحاج صالح، خلال السنوات الأخيرة، معالجته لأسئلة كان طرحها حتّى قبل الثورة، لكنّها أخذت معنىً أكثر وضوحاً ورصانةً منذ 2011. وبعكس كيلة، الذي متَح من العتاد الماركسي، بشكل أساسي، لفهم الراهن السوري، مالت كتابات الحاج صالح إلى البحث في أكثر من مستوى من القراءة النظرية، وإلى الاستعانة بأكثر من مَعينٍ منهجي أو مرجعيّ، غير متردّدة في صياغة مصطلحات جديدة تتيح فهماً أجدد وأوضح لبعض الموضوعات السورية. يمكن، هنا، الإشارة إلى بعضٍ من كتبه، مثل "الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان" (2016)، و"الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية والحرب العامّة في سورية" (2017)، و"السلطان الحديث: في الطائفية وخصخصة الدولة وفي أزمة الوطنية والمواطنة في سورية" (2020).
أمّا سلامة كيلة (1955 ــ 2018)، فكان قد وضع، أيضاً، قبل انطلاق الثورة السورية، العديد من الأعمال التنظيرية حول أسئلة الثورة والحرية والإيديولوجيا والصراع الاجتماعي والاقتصادي (أي السياسي)، وحول النقد التصوّرات الرائجة للماركسية، وحول الإسلام. وجاءت الثورة، عام 2011، لتشكّل فضاءً حيّاً، جديداً، لشغله البحثي؛ فضاء اجتمعت فيه أغلب الوقائع والثيمات التي طالما شغلته. وقد كتب حولها أعمالاً عدّة منذ بدئها، مثل "الثورة السورية: واقعها صيرورتها وآفاقها" (2013)، و"مصائر الشمولية: سورية في صيرورة الثورة" (2014)، و"ثورة حقيقية: منظور ماركسي للثورة السورية" (2014)، و"الصراع الطبقي في سورية" (2015).
كما يمكن الإشارة إلى اشتغالات بعض الباحثين السوريين في لغاتٍ أخرى، ومنهم المؤلّفان الشابّان نبراس شحيّد وجوزيف ضاهر، اللذان تعكس أعمالهما الأولى ولادة تجارب فكرية سورية قد تشهد السنوات المقبلة تراكماً لنتاجها. يكتب شحيّد في الفلسفة، بالعربية والفرنسية، التي نشر فيها "الجسد والكتابة: نيتشه بعد دريدا" (2020) و"التدميرية التشكيلية: قراءات فلسفية في الفنّ السوري المعاصر" (بالاشتراك مع غيّوم دوفو، 2021). أما جوزيف ضاهر، فمن بين ما صدر له، بالإنكليزية، "سورية بعد الانتفاضات: الاقتصاد السياسي لمرونة الدولة" (2019).
ولا بدّ من التذكير، في نهاية الأمر، بأنّ سورية فقدت، خلال العقد المنقضي، عدداً من أبرز أسمائها الفكرية التي رحلت من دون أن تترك وراءها عناوين كتبتها بعد انطلاق الثورة. الحديث هنا، بشكل أساسيّ، عن صادق جلال العظم (1934 ـ 2016)، وجورج طرابيشي (1939 ـ 2016)، والطيّب تيزيني (1934 ـ 2019).