ماذا لو كان الكاتب والقارئ شوكةً رنّانة تتصادى مع شوكةٍ رنّانة أخرى، وينبثق من هذا التصادي شيءٌ ثالث، يتبدّل معه القارئُ ويتبدّل الكاتب؟ سيكون لدينا نصٌّ يتخلّق في التصادي، في العلاقة بين موجتين، أو بين كائنين أشرفَ كلُّ واحد منهما على حافّته القلِقة، أي كائنين يُسلِمّان نفسيهما للرنين، للّاتَحَدُّد، للجانب الإنساني فيهما، أي لما يجعل أحدهما قابلاً للتداخل مع الآخر مثلما تتداخل موجتان، وليس كما تتصادم كُرتان في مخيّلة كونِ الفيزيائي التقليدي.
الأنا والأنت لفظتان لا يصدر عنهما إلّا الصوت الخاوي إذا تباعدتا، فتشغلان مجالاً لا هو مجالُ قارئٍ ولا هو مجالُ نصّ. على النقيض من هذا، حين يصبح الأنا/آخر، يتمظهر المتلقّي وما يتلقى في مقامٍ موسيقيٍّ واحد، يتجلّيان معه. القراءة رنينُ شوكتين، مجالٌ يسمح بالخروج من حالة إمّا/أو إلى حالةٍ كلاهما معاً وشيء آخر، أو أشياء أخرى؛ حقلٌ لا يوجد إلّا في هذا اللقاء بين نص وقارئ.
يذهب القارئُ عادةً إلى النصِّ مثلما يذهب إلى موضوع. يقطع إليه مسافة، لا يدخله بل يراقبه، يقلّبه كما علّموه منذ أن كان طفلاً وحتى نضوجه، أي إلى حين يصبح ثمرةً ريّانة لا تعود صالحة لغير السقوط عن غصنها. وفي ظنّه أن على النصِّ أن يمنح نفسه للقادم إليه، للمغتصب، أو للغازي، لِمَن يحاول امتلاكه، غافلاً عن أن أفعال الاغتصاب والغزو والتملُّك تقيم مسافةً وفاصلاً بين النصِّ وسياق القارئ.
وما قيمة اغتراب النص عن سياق القارئ أو العكس؟ يتصادم الاثنان، فإمّا أن يخضع النصُّ لسياق القارئ ويندرج في مألوفه، في سياقه الإدراكي المسبَق، أي الصور التي يدرك العالم من خلالها، أو أن يستعصي، وعندها يُبعَد بكلّ بساطة. ويتوقّف الرنينُ، وتفقد كلّ شوكة جانبها المَوْجيّ، وتستقر في حيّزها الفقير، منغلقةً مطمئّنة، آمنة في سياق ماضيها، وليس في سياقِ أفقٍ واعد كما هو السبيل الحق؛ سبيل أن يعلّق كل طرف سياقه، ويتشوّف، ويقلق، ويغادر الوتد الذي ربطه به محيطُه أياً كان هذا المحيط، ثقافياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو عقائدياً، ولو مؤقّتاً، إلى أن يرسو زورقه المتمايل على جوديّ بحرٍ كما يقول بحّارة شواطئنا العربية الذي خبروا بحاراً وبحاراً قبل أن يتحوّلوا إلى تماثيل صامتة على رفوف المتاحف والمكتبات.
القراءة الحرّة المفتوحة تعني أن القارئ يعيد تنظيم سياقه
الدخولُ في النصِّ يعني الانتقال إلى مجالِ صيرورةٍ حيّة، حركة ذبذبات حرّة بين سياقِ قارئٍ يتعرّض للاهتزاز، وسياق نصّ يبدأ بالارتجاج حين نبدأ القراءة. الدخول في النص، أيّ نص، وخاصة النصّ المُحَرِّر، يعني أن تتعرّض الصورُ المغروسة في أذهاننا إلى الارتجاج، أن تتحرّر من ماضيها، أو من سلاسل شبه الكينونة التي تتوسّط بينها وبين الواقع، تتحرّر من شبه الواقع الذي هو إلى الوهم أقرب، تصبح موضعاً للشكّ وقابلة لإعادة الصياغة. هذه القراءة الحرّة المفتوحة تعني أن القارئ يعيد تنظيم سياقه. قد يُخرج من النص وعياً جديداً ليس على مثال. أو بكلمة مختصرة، قد يحقّق غاية فنّ الكتابة أو أي فنّ يمكن أن نفكر فيه؛ فن الشعر، التشكيل، الرواية، المسرح، الموسيقى... وما إلى ذلك.
النصُّ المقصود بالطبع هو أكثر النصوص قدرة على أن يكون مجالاً لتعدّدية الأصوات، وتعدّدية الجهات، وإلّا كيف يكون موجةً تارة وجُسيماً تارة أخرى، أو شيئاً محيِّراً، لا هو بالموجة ولا هو بالجُسيم، فلا نستطيع وصفه إلّا بعبارة متناقضة (هو هذا وغير هذا في آن واحد) إن لم يتعدّد؟ التعدّدُ لا يتقدّم آمراً مهدّداً حين تعلو الأصوات وتتموّج. الآمرُ والمهدّدُ هو الصوتُ الواحد، هو الجسيم المتحيّز في تجويفه، في الثقب الأسود، الظاهر أو المستتر في أغلب الأحيان، ذلك الذي لا يقود إلى زمن ماضٍ ولا مُقبل كما يُشاع، بل يصبح الزمن فيه صفراً.
التعدّدُ، أي حضور كلّ صوت بنكهته وتأمّلاته الخاصّة، حضورٌ بلا جهة محدّدة، يتقدّم مثلما يتقدّم النورُ حين يضيء ما حولنا ويترك لنا حرية أن نذهب في هذا الاتجاه أو ذاك. النورُ، بهذا المعنى، النورُ الذي هو التعدُّد والحوار والسياق المفتوح، لا يمتلك إلّا هوية المُنير بلا تمييز. يُضاء كلُّ شيءٍ وكلُّ كائن وكلّ عاطفة بالحنان نفسه الذي ينشره ضياءُ القمر الأزرق الخفيف، لون ريش الحمامة التي نسميها الفاختة، فوق أشباحنا العابرة وفوق أوهامنا وحماقاتنا.
نحن من هذا العالم ونشارك في صنعهِ بكل ما نُنتج أو نشاهد. نحن محدَّدون أحياناً عند أدنى درجات الوعي، ولكننا غير متحدِّدين مثل النور عندما يبلغ ذروته. أنا/آخر، نصٌّ أُنتجه وينتجني، ولن يقرأني سوى قارئ يُنتجني وأنتجه في الوقت نفسه.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين