في اليوم الذي تلا السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، أصدرت "المدرسة التحليلية اللّاكانية الجديدة" في فرنسا بياناً رسمياً تنحاز فيه إلى الاحتلال الإسرائيلي وتتبنّى سرديّته، بحذافيرها، من دون أن تتأكّد من تلك الرواية، التي تراجعت عنها الصحف العبرية نفسها، بعد أن أوضحت التقارير والتحقيقات الصحافية لاحقاً، زيف ما أوردته بوصفه "حقائق".
تُعنى "المدرسة اللّاكانية الجديدة" (نسبة إلى المُحلّل النفسي الفرنسي جاك لاكان (1901 - 1981) الذي أعاد تفسير النصوص والتعاليم الفرويدية فلسفياً ولغوياً)، ضمن ممارسة فردية، بالإجابة على صعوبات الفرد وتساؤلاته، وحقيقته الإنسانية، وفهمها في ظلال لاوعيه وتجربة الفرد الكلامية، والتي ينطلق من خلالها التحليل النفسي، كممارسة أخلاقية وخطاب حُرّ، لمحاولة فهم المجتمع. وبناءً عليه، فإنّ "التحليل النفسي" موضَع نفسه منذ البداية كخطاب معاكس كليّاً لخطاب "السيّد".
في الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر، فشلت "المدرسة اللّاكانية الجديدة" في اختبارها العملي أمام تنظيرها السابق، حين تبنّت في بيانها خطاب المُستعمِر، وصمتت عن مجازر التهجير والإبادة الجماعية - المُستمرّة - بحقّ الإنسان الفلسطيني في غزّة، والتي وصل عدد ضحاياها في العدوان الحالي إلى أكثر من 18 ألف شهيد، أكثر من نصفهم نساء وأطفال، ولم تُدرِج ذلك ضمن تعبير "انتهاكات ضدّ الإنسانية" الذي أوردته في بيانها المُنحاز للاحتلال الإسرائيلي.
موقفٌ سلبي يكمّل مواقفها السابقة تجاه القضية الفلسطينية
ولا ينفصل هذا عن سياق ما أورده المُحلّل النفسي البريطاني إيان بيكر، في بيان استقالته من "المدرسة اللاكانية الجديدة" في لندن، في أيار/ مايو 2021، وكان من بين أسباب استقالته الثلاثة، التي أوضحها في منشور عبر حسابه في فيسبوك: الدعم المُتكرِّر للمؤسَّسات الإسرائيلية، وعقد مؤتمرات "المدرسة" في "إسرائيل"، من دون الالتفات إلى دعوات منظّمات المجتمع المدني الفلسطينية بالمقاطعة أو تغيير المكان.
ومن اللافت أنّ رسالته الاحتجاجية قوبلت بالتجاهل من قِبل "المدرسة اللاكانية الجديدة" في فرنسا، ما يطرح تساؤلاً ليس بالهَيّن، وهو: كيف لِتوَجّه تحليليّ يزعم التآمر على خطاب "السيّد" والخطابات الجمعية، أن يتماهى مع خطاب المُستَعمِر؟
يكشف بيان المدرسة المنحاز بشكل فاضح للاحتلال، عن موقف سلبي ثابت له امتداد من المواقف السابقة تجاه القضية الفلسطينية، منها ما حصل في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2018، حين وُجّهت دعوات من قِبل عاملين في مجال الصحّة النفسية من فلسطين وخارجها لـ"المدرسة اللاكانية الجديدة" في فرنسا، تُطالبها بالعدول عن قرارها بعقد مؤتمرها في "إسرائيل"، لأسباب تتعلّق بممارسات الاحتلال، وانتهاكات حقوق الإنسان، وعدم قدرة الفلسطينيّين على حضور مثل هذه اللقاءات. وكان ردّ المدرسة بتجاهل تلك الأصوات، وعدم الاستجابة لمطلب تغيير مكان اللقاء.
والجدير ذكره أنّ تلك الفترة شهدت استشهاد العشرات من الفلسطينيّين العزَّل في "مسيرات العودة الكُبرى". وعلى الرغم من ذلك، عُقد اللقاء كما خُطِّطَ له. وفي الفترة نفسها، وُجّهت، أيضاً، دعوات إلى "الرابطة الدولية للتحليل والعلاج النفسي العلائقي" لتغيير مكان عقد لقائها في حزيران/ يونيو 2019 (تل أبيب)، وردّت حينها بأنّها لا تُحدّد أماكن مؤتمراتها بناءً على اعتبارات سياسية.
تزعم رفض خطابات الهيمنة لكنّها تتماهى مع خطاب المستعمِر
الموقف الفاضح الذي تتخذه المدرسة في الانحياز إلى المُستعمِر، كشفَ عن أزمة ثقافية ونفسية ابتلعتها بالتماهي مع نظرة الغرب الاستشراقية إلى الآخر المُختلف، وهو ما يُحيلنا إلى اعتقاد اعتنقه اليونانيون القدماء بأنّ الآلهة خلقتهم من مادّة نورانية خالصة، فيما خُلِق غيرهم من مواد خسيسة جعلتهم يعانون من قُصور عقلي وعضلي.
في هذا السياق، اعتبر أرسطو أنّ من لا يتكلم اليونانية "بربري" يُمكن استعباده في حال وقوعه في الأسر، فيما توالت توصيفاتٌ مثل "همجي" و"متوحّش" وغيرها، والتي كانت كفيلة بأن تجعلهم يرفضون الآخر وأساليب عيشه، لعدم توافقها مع طبيعة عيشهم "الديمقراطية" و"المتحضّرة". وبناء، عليه، كان من المستحيل وجود علاقات بينهم وبين الآخر، من وجهة نظرهم، في وقتٍ كانت تُقدَّس الحروب التي تُشنّ ضدّ هؤلاء "البرابرة"، وتنبذ ما دون ذلك من حروب.
فمن هو الآخر؟! هذا التساؤل الأزلي عن الآخر، عن هذه العلاقة الصراعية الإقصائية منذ واقعة قابيل وهابيل إلى ما لا نهاية على ما يبدو، من الممكن أن نراها عبر مفهوم الرغبة ونشوئها وفقاً لتنظير "التحليل النفسي"، الذي يعود للنقص، والذي كما قيل "إنه قَدَر لا شفاء منه".
وبالعودة إلى ما سبق، فإنّ علاقة اليوناني مع تلك الفجوة الداخلية غير المحتملة، لربما كانت بحاجة إلى آخر تُسقِط عليه هذا النقص ليساعد اليوناني في الشعور بالكمال، فكان لا بدّ من إيجاد آخر "بربري" ناقِص، يُثبت من خلاله كماله، وهو ما يستدعي وجود آخر على قيد الحياة، ما يفضي في حال حدوث ذلك إلى حلّ الصراع الإنساني وفقاً للإخضاع، بدلاً من الإقصاء بالقتل، وهو ما أشار إليه هيغل بجدلية "السيّد والعبد".
وبهذا، تكاد أغلب ممارسات الاحتلال ومواقف المُنحازين لروايته، لا تخرج في تشخصيها عن جدلية "السيّد والعبد" لدى هيغل، وتنظير فرانز فانون عن "الأقنعة البيضاء" وعلاقة المُستعمِر بالمُستعمَر، حيث "الآخَر" مُحدَّد ومُصنَّف ببساطة. ضمن هذا السياق، نفهم المرجع النفسي لدى المُستعمِر عندما وصف الإنسان الفلسطيني في غزة بأنّه "حيوان بشري"، وكان هذا تبريراً للقتل وقطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء، واستهداف المرافق الصحّية كافّة، في ظِلّ تبنّي عدد من المؤسّسات الأوروبية لرواية الاحتلال، من بينها "المدرسة اللّاكانية الجديدة".
وعلى السيرة، كتب فرويد في 26 شباط/ فبراير 1930، رسالة إلى حاييم كوفلر، عضو "مؤسَّسة إعادة التوطين في فلسطين"، الذي دعاه لتأييد "التوطين"، وكان ردّ فرويد واضحاً في رفضه القطعي. ومما جاء في رسالته: "لا يمكنني أن أشعر بذرّة تعاطف مع تديّن أُسيء تأويله، يجعل قطعةً من جِدار هِيرودس معلماً وطنياً، يتم بسببه تحدّي مشاعر سكّان البلد الأصليّين".
وعليه، إن كان جاك لاكان قد دعا، عام 1964، بالعودة إلى فرويد بعد ضلال تلاميذه عن القواعد والمفاهيم والتعاليم الأساسية للتحليل النفسي، فإنني أعتقد أنّنا اليوم بحاجة للعودة إلى فرويد، ولكن هذه المرّة عبر أخلاقيات وممارسات التحليل النفسي في المقولات السياسية، وفي تجلّيات الكلمة الحُرّة غير المتماهِية مع خطاب السيّد أو المُحتَل.
* أخصّائي نفسي من فلسطين