في سُيولتنا الحداثيّة، التي حفر باومان عميقاً بإزميله الفلسفيّ فيها، لا مرجعيّة للحنين. كلّ شيء يسيل: الوقت، الحبّ، الحرية، الحقيقة، المعنى. لا أنصاب تذكاريّة تحتجز الغياب أو تحرّره من أحد أكثر مرادفاته التباساً: الخلود. لا أمكنة مألوفة داخلنا أو خارجنا يلتفت القلب في غربته إليها لكي يضبط جهاتِ جنوحه وجنونه. لا ضفاف تصوّب نهر الأسئلة الذي يجري فينا على غير هدىً، تائهاً بين منابعه ومصبّاته.
كلّ شيء مؤقّت ومؤجّل وغير متعيّن. كلّ شيء يدين بالولاء الأعمى للمستقبل. ذاك السجّان الكبير بطفولته المُعنَّفة وبرغباته المكبوتة وأحلامه المؤرشَفة أبداً في سجلّ المفقودات. نطيل الوقوف بخشوعٍ وسْواسيٍّ قهريّ في معبد المستقبل وفي أقبيته المرفّهة المفتوحة لزوّار مُغمِضي الذاكرة.
هناك حيث يعمل المبشّرون، على تعدّد مشاربهم ومآربهم، ليس دونما تلذّذ، على تحنيطنا في أشكال حجريّة تنظر إلى الأفق دون أن ترى شيئاً. كأنّنا حجارةٌ صمّاء مقذوفة من منجنيق الخديعة صوب قلعة فارغة أعيَتْ فاتحيها. الحاضر منطوٍ على نفسه وعازفٌ عن الكلام. الماضي نرجسيّ وثرثار.
في زمن الفردانيّة المقطوع من شجرة كغصنٍ يابس تكذّب الحياة يومياً الإشاعات المبكّرة لموتنا العلائقيّ، وتحتفي بمرورنا الحقيقيّ فيها كائناتٍ من عِناق وفراق وحنين. نتأمّل حياتنا الاجتماعيّة المنحسرة، نطمئنّ على أعضائنا وأسمائنا ونتلو بيان الندم: لا مستقبل لوهم الأنا ولا جمال لوحدتنا دون الآخرين.
* شاعر من فلسطين