"كنتُ أشعر أنّي معطوبة الرّوح، قبل أن أحرّر قلبي من الحزن. عندما تلاشى رفضي، سكنت روحي وعدتُ أبتسم حين أتذكّر كم أحببته. كيف فعلتُ ذلك؟ ليست هناك وصفة جاهزة، كلّ ما أعرفه أنّي أكلّمك الآن وأنا حرّة من كلّ شيء: من ماضي النّساء المنطقيّات والرّجال المفكّرين، من حَتميّة المواقف والأحكام ونمطيّة اللازم، من خوفي أن أبقى وحدي ومن غضبي أنّي لم أكن كافية، ومن عجزي عن أن يحبّني رجلٌ أحببتُه، رجل اكتشفتُ أنّ فيه من أنوثتي أكثر منّي، رجل حمل في قلبه أرواح ملايين النّساء وسافر فيهنّ ثمّ عبر نحو قلبي كأنّه طيف".
ابتسمَتْ وهي تقول تلك الكلمات من غير أن تنظر نحوي، نفثتْ دخان سيجارتها، كان الجوّ باردًا وأضواء الليل الخافتة فوق الجسر تزيد الليل غموضًا وعمقًا. لم أكن متأكّدًا من ردّ فعلها، لكنّي طوّقت كتفيها بذراعي فمالت بعد دقائق فوق صدري. غريبةٌ المصادفات التي تحصل في هذه الحياة، لو لم تكتشف هي ذلك الباب صدفةً، لبقيتْ في خيالي امرأةً من كلامٍ قاله نادر، ولَمَا قدّر لنا أن نلتقي إلّا في كلامه عنها.
جلستْ على حافّة السّرير، رأسها كأنّ فيه غمامة، تعيش بنصف وعي، تحيا الأحداث كأنّها صورٌ تعْبُر، يختلط كلّ شيء بطريقة تجعل الاستسلام الحلّ الوحيد.. لقد مات نادر وها هو قميصه، فارغًا من ذلك الجسد الرّقيق؛ لقد مات ولن يقف أمامها يسألها مزهوًّا إنّ كان يعجبها، لن يسابقها إلى حمل طفلهما ويبعده عن الخزانة ويؤنّبها: "لِمَ تتركين الصّبيّ يدخلها؟ قد يختنق لو أطبق عليه الباب"؛ "لديك وساوس مبالغ فيها، عليك أن تراجع طبيبًا نفسيًّا، حالتك خطرة"، مازحَتْه. علّمها نادر كيف تقلب المواقف المحرجة إلى نكتة، كيف تخفّف من جدّيّتها. كانت تشعر أحيانًا أنّها هي الرّجل في علاقتهما. قال لها يومًا وقد اتهمته بالسّخف: "يحتاج الأمر إلى حياة كاملة تو بي سيلي يا جميلتي". شعرَتْ أنّه لا ينطق عن الهوى، أنّه يبوح بتجربة حيّة في جملة بسيطة، وأنّ روحًا مختلفة وراءه، مختلفة في كلّ شيء وعن كلّ شيء...
لم يكن نادر كثير الكلام، فرغم أنّه كان عاشقًا للسّفر، إلّا أنّه كان يلوذ إلى عزلته كثيرًا، وكان ذلك يستفزّها ويشعرها بأنّها هامشيّة في حياته، حتّى أنّها قالت له في إحدى المشادّات: "لِمَ تزوّجتني إن كنت تعشق أنانيّتك؟ لقد خدعتني، لم تكن كذلك قبل الزّواج"، "بلى، كنتُ وسأبقى، وهذا لا يعني أنّي لا أحبّك"، "أنت دائم الغياب عن البيت، إمّا مسافر أو في العمل، حتّى إننا لم نعد نتمشّى. انظر، أترى، بتّ أطلب أبسط الأمور. هل تعي المسافة التي بيننا؟". قام من أمامها وتوجّه إلى غرفة النّوم، التقط أحد قمصانه الصّيفيّة وشورتًا ارتداهما وخرج، لكنّه لم ينسَ أن يبعث لها قبلة طائرة وهو أمام الباب. الذّكريات تتكدّس وتتلاحق حتّى تمحو الواقع وتحلّ مكانه، بل تغدو ملاذًا للرّوح المتعبة. عاشت بعد موته في ذكراه.
أمام الخزانة فقط وجدت راحتها، تجلس أمامها ساعاتٍ، قد لا تنظر نحوها، وقد تطيل النّظر إلى مرآتها حتّى تختفي الخزانة تمامًا. اكتشفتْ أنّ تلك المرآة كانت محطّة يوميّة في علاقتها به، فَعَلا أمامها الكثير، وكان نادر يحرص على إبقائها مرتّبة، كما كان يحبّ شراء ثياب أنيقة، وينوّع من طريقة لبسه، فلا تجد في خزانته لونًا واحدًا أو شكلًا معيّنًا، لديه الكثير فيها من كلّ شيء: ساعات وبذلات، ربطات عنق وقبّعات، أحذية وأحزمة وقمصان وسراويل وعطور ومجموعات فاخرة من أدوات الحلاقة، بعضها لم يمسسه، كريمات للعناية ببشرته وعدّة لأظافره، غير أزرار الذّهب وخواتم الأحجار الكريمة التي يضعها في صندوق خشبيّ جلبه معه من الهند، مرصّع بأنياب عاجيّة، هدايا وأوسمة رياضّية في السّباحة وركوب الخيل، نظّارت شمسيّة وأساور جلديّة مذهّبة، بينها واحدة أهدته إياها في عيد ميلاده الخمسين.
أخرج مفتاحاً فضّياً محفور عليه حرفان: كاف ونون
كعادتها تستعيد حياتها معه جالسةً أمام خزانته، لمَعَ في بالها موقف، كانت تلاحقه بكلامها، تشكو بُعده عنها وصعوبة تحمّل مسؤوليّة طفلهما وحدها، تنظر إليه تستجدي نظرة تعيد لها الثّقة بالحبّ الذي جمعهما، كلمة تروي عطش قلبها إلى قلبه، لمسة أو حتّى نكتة يطلقها كما كان يفعل قبل أن يتعرّف إلى خليل. وقع منه مفتاح، وضعه في جيب سرواله وطبع قبلة فوق جبينها بصمته المعهود وخرج. ما كان ذلك المفتاح؟ قامت من فورها إلى الخزانة، لم تجده في جيب البذلة التي كان يرتديها، بحثتْ في صندوق مجوهراته فلم تجده كذلك، راحت تفرغ الرّفوف. شعورٌ جارف جعلها تريد ذلك المفتاح، دخل ابنها وهي تبحث، أخبرته أنّها حضّرت غداءه على طاولة المطبخ، رآها منشغلة فتذمّر وقال لها إنها أصبحت تتركه كما كان والده يتركها، توقّفت عن التفتيش، قالت مداعبة: "يا لي من أمّ حمقاء تترك صبيًّا جميلًا مثلك".
تناولا الغداء وأخبرها تفاصيل يومه في المدرسة، كانت سارحةً لكنّها لم تُبدِ ذلك له، سألها وهو يغسل طبقه: "مام، عن ماذا كنت تبحثين في خزانة داد؟"، "لا شيء، مفتاح لا أجده"، "أتعنين أنّه لأبي؟ أهو هذا؟"، أخرج مفتاحًا فضّيًّا محفور عليه حرفان: كاف ونون يشكّلان كلمة "كن"، مرصّعة بأحجار زمرّد حمراء صغيرة. أمسكت المفتاح وسألته كيف وصل إلى يده، فأخبرها أنّ والده جاء إلى غرفته مرّةً ليلًا وأعطاه إيّاه وطلب منه أن يكون ذلك سرّاً بينهما، وكان كلّما أوصله إلى المدرسة أخذ المفتاح ثمّ خبّأه معه حين يُعيده إلى البيت، وحين كان يسافر كان يحتفظ به معه. ارتابت أكثر، لِمَ قد يخفي زوجها مفتاحًا مع ابنهما؟ أيّ مسافة فرّقتنا حتّى لا أعلم عن هذا كلّه؟
في الليل قامت إلى الخزانة. شيءٌ ما قال لها إنّ المفتاح يتعلّق بها، أخرجت محتوياتها قطعة قطعة، عرّتها، لم يعد هناك سوى الجدران المثبّتة إلى الحائط، تلمّستها بعناية ولكنْ لا شيء، وقفت حائرة تختنق بأفكارها ونفاد صبرها، أعادت ما عبثت فيه مكانه، وأغلقت باب الخزانة الضخمة، وحدها أمام المرآة ومفتاحٌ صغير في يدها. أرخت جسدها إلى المرآة كما باتت تفعل بعد موت نادر، كانت تشعر أنّها تستحضره بتلك الطّريقة فترتاح لوجوده معها. فجأةً سمعت صوت دحرجة، كأنّ شيئًا صلبًا قد وقع، تلفّتت حولها؛ لم يتغيّر شي في المكان، فمن أين جاء ذلك الصّوت؟ ثمّ وقع شيءٌ آخر وراحت أصوات تحطُّمٍ تصدر من باب الخزانة، تحديدًا من المرآة. تسارعت حركة يديها وهي تبحث عن الصّوت، وكانت المفاجأة عندما لمست يدُها فتحةً صغيرة فوق المرآة المحاطة بإطار خشبيّ ثخين؛ المفتاح، سارعت ووضعت المفتاح في تلك الفتحة الصّغيرة فانفتحت المرآة ووجدت الأغراض التي كانت تتدحرج في طريقها إلى الخارج.
أوصلت ابنها إلى المدرسة وأوصت السّائق أن يوصله إلى بيت جدّته لأبيه، كانت تعلم أنّها لن ترجع من بيروت قبل أن تجد خليل. بدت الطّريق لا تنتهي، توقّفت مرّات عديدة تجهش بكاءً كلّما استعادت صورةً من تلك التي وجدتها في الخزانة، كيف يمكن لإنسان أن يكذب إلى هذا الحدّ؟ أن يلبس قناعًا لخمسين سنة وأكثر؟ أن ينجب طفلًا... ربّاه، كيف استغفل الجميع؟ أيكون ذلك الرّجل الوسيم الذي أحبّته كِذبةً؟ كانت له ضحكة صافية وكان يحبّ أمّه بجنون، أيكون مجرّد عابث لا يُقيم حَدًّا ولا يعرف فضيلة أو عرفًا ولا يخاف الله؟
كان خليل طويل القامة، أسمر داكنًا، صافحها واعتذر أنّه لم يتمكّن من حضور العزاء، لم تصبر طويلًا، قاطعته تلتهب كلماتها كأنّها سُمّ تنفثه وهي تبرز صورة: "ماذا يعني هذا؟ قل كلّ شيء وإلّا تيقّن أنّي سأقتلك". لم يكن هناك مهرب، الصّورة تقول كلّ شيء، ولن يتمكّن من خداعها، كيف ترك نادر صورة كهذه تقع بين يديها؟
كان يتذكر روائح شمّها في الملجأ منذ عشرين سنة
كانت الحرب سيّدة الزّمن، كنّا نقف في البلكون ودبّابة الإسرائيليّ تحت عتبة البيت، قصفتْ دبّابةٌ بيت جارنا أبي سليم الذي يسكن الطّابق السّادس في البناية المجاورة، صرخت أمّهاتنا، لَمَمْنَنا كأفراخ العصافير، تهافتنا على الدّرج، بعدها بقينا في الملجأ شهرين. كنّا نلاعب الجنود من خلف الزّجاج، تطحن النّسوة العدس ويصنعن منه الخبز، يخرج رجل خلسة ليشتري قارورة غاز، يكون محظوظًا لو عاد. كان نادر ذكيًّا، حسّاسًا، يسبقنا في الجري، موهوبًا يرسم فوق حيطان الملجأ كلّ ما يراه، وذات صباح أفاق الجميع على تصويرٍ يجمع أمّه بأبي سعيد، قتل والدُه أمَّه ببلطة الكبّة، وفرّ أبو سعيد تاركًا زوجته وأولاده، فاغتصبها أبوه أمام مَن بقي من الجيران، فقد هرب نادر.
التقيته بعدها بسنوات طويلة في فرنسا، كان يطيل شعره ويدخّن سيجارًا، يجلس وحده في حديقة ضاجّة بالنّاس، لم يعرفني، فقد تغيّرت. وجدتُه يعرف فرنسا، وكنت أوّل عهدي بها وأحتاج إلى مَن يساعدني، لم أتردّد في طلب المساعدة، أشعرني بثِقَلي ولكنّني تركت خجلي لحاجتي إلى مساعدته، سكنت معه في بيته، كان بيتًا كبيرًا فوق روف أحد المباني، لا تسأليني عن اسم المكان، فلم أعرف من فرنسا تقريبًا، طيلة إقامتي فيها، غير كلمة "بونجور" وغرفة نوم نادر.
اصطحبني نادر إلى أماكن غريبة ارتدتُّها لأوّل مرّة، ضاجّة وصاخبة، يسكرون حتّى لا يعرف أحدهم ليلَه من نهاره، يتلاصقون فلا حدود ولا وجوه، الجميع مع الجميع حتّى تكاد لا تشعر بذاتك... قال لي مرّة: "ستعرف أنّ ذالك سيشفيك منك... هديّتي لكسر الإيغو". لم أعد أفرّق بين صواب وخطأ، اختلفت نظرتي إلى الحياة وإلى ذاتي، صدّقيني لا أعرف من يكلّمك الآن، رجلٌ أم امرأة، قولي ما تشائين، لكنّ عصورًا من بحثنا عن عظمتنا كبشر، لم تنفعني. لم أشعر أنّي حرّ إلّا وأنا أشارك نادر جسدي، كنتُ صغيرًا، لكنّني كنتُ أكبر من كلّ ما حولي، ونادر كان أشبه بكونٍ، فيه أنسى مَن أنا، وأصفو وأحلم وأسافر ولا أخشى أحكامًا ولا أريد شيئًا، أجلس خلفه على الموتوسايكل، نوزّع المخدّرات أو البيتزا، لا فرق، كنّا نحيا يومًا بيوم، كان كأنّه يمتلئ من الفراغ، مشحونٌ دومًا برغبة جديدة في اكتشاف جديد، مسكون بالحريّة.
أحبَّ أهله بصمت، من دون أن يعود ليراهم، أو يريد أن يحبّوه، قال لي دومًا: "لقد أحبّ أبي أمّي على طريقته"، وكان يتذكر روائح شمّها في الملجأ منذ عشرين سنة، يصف لي وجوه الجيران بدقّة، يقلّد أصواتهم وحركاتهم، يستعيد طريقة كلّ من عرفه في المأكل والملبس. كنّا نضحك وكان يعرف قيمة كلّ لحظة، فلا يترك سعادة تمنحه الصّفو إلّا ويعيشها. لقد علّمني أن أعرف بحقّ ما أريد وأحقّق أحلامي بسهولة. انظري إلى نفسك وحولك فتفهمين أنّ علاقتي بنادر كانت خيرًا على كلينا… سيّدتي، زوجك لم يكن شاذًّا كما تسمّينه، كان روحًا هائمة فوق عالم يطمس وجوهنا، لقد قلتِ لتوّكِ إنّك شعرتِ أحيانًا أنّكِ رجل، فهل جرّبت مخاطرة البوح أو تجربته ولو كان أمام نفسك؟ أتعلمين، بحقّ، ما الفرق؟ لا تلومي نادر لأنّكِ جبانة ولا تعرفين من الحياة إلّا ما قيل لك عنها.
"هل أقمتما علاقة ونحن متزوّجان؟".
"لا يحقّ لك أن تسأليني هذا الأمر".
"وحدي، وحدي مَن يحقّ له كلّ شيء حتّى أن أقتلك وأقتله أيضًا وهو في قبره. أتعْلَم كيف أحيا منذ رأيت تلك الصّور؟"، قالت بعنف بادٍ جعله يخّفف من تحدّيه.
"أتفهّمك سيّدتي".
"لا، لا تتفهمّني ولن تتفهمّني ولن يفهم أحدٌ ما أشعر به. أنت فقط تحتاج أن تشعر أنّك إنسانٌ جيّد، ستقول بضع كلمات لا معنى لها وأعود إلى قهري وخيبتي وتعود إلى عربدتك. كيف فعل بي ذلك؟ كيف؟ ليت عظامه سُحقت ألف مرّة، بل ليت نارًا كالّتي في قلبي تلهب روحه".
صمتَ خليل لثوانٍ ثمّ قال: "بلى، أفهمك. أنا مثلك، لم أختر أن أوضع في مثل تلك الظّروف التي أحتاج فيها إلى تقديم مثل تلك التّنازلات".
"لكنّ وصفك لعلاقتك بنادر يُشعر من يسمع أنّه اختيار".
"قد يكون نصف اختيار، أو لا اختيار بإرادة الطواعية تمامًا، كما يمكن لسبّاح أن يترك نفسه عائمًا على سطح ماءٍ جارٍ... كنت أترك نفسي تسير مع الحياة. هل جرّبت الملجأ؟ أتظّنين أنّ ألمك النابع من غرورك الأنثويّ لا يضاهيه ألم، تعالي أريك ماذا فعلت بنا الحرب. انظري".
مدّ يده إلى أحد الجوارير في مكتبه، أخرج حزمة صور بأحجام مختلفة، صور لقتلى وجرحى ووجوه تستغيث، لأطفال بعيون دامعة ونسوة جالسات على قارعة الطّريق بلا حول ولا أمل، لجنود يصوّبون البنادق للظهور المنحنية، لشوارع سوداء وشاراتٍ ملّونة تلطّخ الفضاء...
"لا تحاول أن تتلطّى خلف وجَعك. هذه الحرب، دفعنا ومازلنا ندفع ثمنها جميعًا، فهل أصبحنا نشازًا مثلكما؟ ليس الألم سببًا نسوّغ به رغباتنا بالانقياد للشهوات. دناءتك لا سبب لها سوى انتهازيّتك وتفلّتك من كلّ قيم... أنت مثله ملعون".
"ولكنّي لم أرَ نادر منذ تركت باريس لعشرة أعوام مضت، إلّا صدفة في إحدى سفراته إلى قبرص".
"هل أقمتما علاقة؟ تكلّم... هل أنت متزوّج؟"
"أرمل".
مرّت شهورٌ بقي ابنها عند جدّته، استقالت من عملها في المستشفى، وقفت لياليَ أمام صورتها مع نادر، المعلّقة في غرفة الجلوس، كان يبتسم بحبّ. "إلهي، أين أذهب من هذي الذّكريات، أكان يهمس لي وهو يتذكّر رجلًا؟ تلك الشّهوة الجامحة، أكانت لي؟ ربّاه، كيف سأنسى عينيه وهو يبتسم في غرفة الولادة؟ أيرث ابني تلك الجينات؟".
في ذلك العصر من تشرين، فيما كانت تشرب قهوتها، وقف عصفوران فوق أحد أغصان شجرة اللوز، سرحتْ في حركاتهما، أرادت أن تتأكّد من جنس كلٍّ مهما، لكنّها لا تعرف كثيرًا عن الطّيور، استسلمت لمتابعةٍ لم تستمرّ سوى دقائق، طار العصفوران، فتحرّكت الأغصان ورأت بعض الأوراق الصّفراء تسقط إلى الأرض...
"أتعلم، لقد أصبحت كلمة 'حبيبي' غريبةً بعد أن عرفتُ ماضيك أو حقيقتك، لكنّ الأغرب أنّ يصبح معناها عميقًا يا نادر... حين أفلتُّكَ من كبريائي فهمت ذلك الجانب منك، عرفت أنّك أحببتني من دون شرط، باختلافي، تمامًا كما أنا مهما اختلفتُ عمّا يرضيك، أرجو أن تكون قد وجدت نصفك الذي كنت تبحث عنه هنا ولم أكنه... وداعًا يا صديقي الحبيب". نظرت إلى شاهدة القبر التي أوصى نادر وهو على فراش الموت أن يًكتَب عليها: "نحيا كثيرًا ولا نموت مرّة واحدة". وضع خليل إكليل الورد، مسّد رخام القبر لدقائق ثمّ أمسك بيدها ومضيا.
* كاتبة من فلسطين