لو كان بإمكاني أن ألحق بكوكي للحقتها، لا بدّ أنّها هربت حين رأت القاتل، طارت إلى الحيّ الخلفيّ، رأيتها، ناديتُ الجيران فأنكروا أنهم رأوها، لكنني رأيتهم يدخلونها البيت.
اللصوص يشتمّون رائحة الذهَب كما تشتمّ الكلاب البوليسيّة، لن يخبرها أنّ ذهبها قد سُرِق، ولن يخبرها أنّ خطّتها في دفن الغسّالة والثلّاجة والمكيّف لم تنجح كذلك، فالقبور التي وضعوها فيها منبوشة وقد ترك اللصوص لافتة كتبوا عليها بالدّم "عظّم الله أجركم".
اجتمعنا في ذلك اليوم بعد غياب طويل، لم نتكلّم كثيرًا، لم تتلامس أيدينا، لم يغونا الجوّ الجميل بإطلاق النّكات أو الرّكض. قصدنا الدّير، إنّها صلاة الغياب، أجراس الكنيسة تنظّف الجوّ، تلمّست منها أن تدخل إلى قلبي وتنظّفه من أدران ما عرفه من أحزان.
ربّما كانت روح العمّة غريبة، ربّما هي حرّة أو لعلّها متسلّطة، كلّ ذلك لا يهمّ، فحياتها رتيبة بشكل يبعث في قلب أيّ عاقل الشّعور بضرورة الانتحار. هل يبدو أنّ ذلك متناقض؟ حياة عاديّة ملأى بالأهوال لدرجة الرّغبة في الانتحار؛ ولكن أيّ حياة ليست كذلك؟
كانت أحلى الأوقات وأنا أساعد أمّي بعد عودتي من المدرسة. رائحة المربّى تفوح حتّى أوّل الشّارع، أركض نحو البيت كأني أسبح فوقها، أترك حقيبتي عند الباب وألحق رائحة القرنفل والمستكة، وحين أحرّك المربّى في القدر أقول لأمّي: "هل يمكن أن أتذوّقها؟".
التقينا صدفة منذ ثلاث سنوات عند صديق مشترك، خطفني الشّبه بينه وبين لاعب كرة مضرب أحبّه كثيراً، ورحت أناديه باسمه طوال الجلسة التي لم يكن مخطّطاً لها أن تدوم أكثر من عشر دقائق كما زعم كريم وهو يناديني كي أنضمّ إليهم هو وصديق له عالم فلك.
كانت الحرب سيّدة الزّمن، كنّا نقف في البلكون والدبّابة تحت عتبة البيت. كنّا نلاعب الجنود من خلف الزّجاج، تطحن النّسوة العدس ويصنعن منه الخبز، يخرج رجل خلسة ليشتري قارورة غاز، ويكون محظوظًا لو عاد.
أتعلمين أنا لم أختر أيًّا من تلك المعارك التي خضتُها. وكذلك لم أكن شجاعة كفاية كي أعرف متى أغادر أيًّا منها، كنتُ أحاول دومًا أن أغيّر وجهة نظر الذين أحببتهم عنّي، شعرتُ أنّي أحيانًا أرغب في تحريرهم من أفكارهم المسبقة وأحكامهم الجاهزة.
فوق الرصيف الملتهب بشمس تشرين، كان الهتاف مشتعلاً، امتدّت يد طريّة، وضعت في يدها علماً، وقالت وهي تهرول: "قولي معنا.. "، لم تكمل الصغيرة المستعجلة جملتها، حاولت أن تستوقف الصّوت، لكنّه انفلت. شعرت أنّه ذهب عن شمالها، فقامت تلحق به.
يبدو أنّ ذائقة العرب لا تبتعد كثيراً عن ذائقة القرّاء من جهة الاهتمام بالرواية، ولكن مقارنة معدّلات البيع في البلاد العربية بمعدّلاته في بلدانٍ أُخرى تُظهِر الهوّة في حجم المبيعات؛ إذ لم يسبق أن عرفنا كتاباً عربيّاً حقّق مبيعات بالملايين.