بانياس.. أكثر المدن الهلنستية قداسةً في جنوب بلاد الشام

01 ابريل 2023
رسم لـ هاري فِن تظهر فيه قيصرية فيليبي، أحد الأسماء القديمة لبانياس (Getty)
+ الخط -

تقدّم مدنية بانياس، الواقعة في الجولان السوري المحتلّ، لوحة بانورامية فريدة من نوعها عن التفاعل الحضاري بين المعتقدات والأنماط العمرانية، المحلّية منها وتلك التي أدخلها الاغريق بعد فتوح الإسكندر المقدوني.

وقد أنتج هذا التفاعلُ ما عُرف باسم الحضارة الهلنستية، ذات الروح الشرقية، حيث استمدّت اسمها من الإله الوثني "بان"، وهو إله الرُّعاة، والغابات، والحيوانات البرّية، والجبال عند الإغريق؛ ولكنّها أصبحت مدينة مقدسة عند المسيحيين فيما بعد، وكذلك عند بعض الطوائف والفرق الإسلامية.


في التاريخ

ظهرت بانياس للمرّة الأولى في التاريخ المدوّن خلال القرن الثالث قبل الميلاد، حيث كانت أحد مراكز العرب الإيطوريين، في شمالي الجولان. ويُعتقد أن هذا الموقع شهد حضوراً بشرياً في العصر البرونزي، أو على الأقل في بدايات العصر الحديدي، رغم نفي بعض الباحثين لمثل هذه الإمكانية، بسبب الطبيعة المستنقعية للمنطقة. فقد كشفت عمليات التنقيب، في محيط بانياس، عن العديد من المواقع، التي تعود إلى العصرين البرونزي والحديدي، الأمر الذي يعزّز فرضية وجود بقايا موقع قديم، لم يُكشف عنه حتى الآن.

والمدينة خضعت للحكم السلوقي منذ 200 ـ 197 ق. م.، حين دارت معركة حاسمة في هذه المنطقة، بين أنطيوخوس الثالث السلوقي، وسكوفاس قائد جيش حاكم مصر بطليموس الخامس، أسفرت عن انتصار السلوقيين، واستيلائهم على المنطقة. وأصبحت تحت الحكم الروماني، منذ أن احتل بومبيوس الروماني سورية، في عام 64 ق. م.، وتحوّلت إلى قاعدة عسكرية هامّة للجيش الروماني، حتى أن تيطس أقام فيها احتفالات انتصاراته في فلسطين واحتلاله للقدس في عام 70 ميلادي.

في الفترة المسيحية، كانت بانياس أسقفية فينيقية تابعة للبطريركية الأنطاكية، وحضر أسقفها فيلوكالوس مجمع نيقية في العام 325 م، وأسقف آخر هو أوليمبيوس كان حاضراً في مجمع خلقيدونية في العام 451 ميلادية. وسكنها الغساسنة، وفتحها العرب عام 636، واحتلّها الفرنجة عام 1130، وجعلوا منها موقعاً دفاعياً متقدماً، وأضافوا إليها تحصينات. ثم حرّرها نور الدين محمود، إلى أن وقعت بيد المغول عام 1260 ودمّروها مع قلعة الصبيبة المجاورة لها.

غير أن الملك الظاهر بيبرس قام بترميمها من جديد وأعاد لها الحياة، وجعلها نيابةً تتبع لها مساحات واسعة من شمال الجولان، بما فيها سهل الحولة وجبل حرمون، حتى بلغ عدد القرى التابعة لها ــ كما يذكر خليل الظاهري في أواخر العصر المملوكي ــ مائتي قرية. ولكنّ بانياس تراجعت مع الحكم العثماني لبلاد الشام ومصر؛ ولم تكن إلّا قرية صغيرة عندما زارها رحّالةُ وحُجّاجُ القرن التاسع عشر الغربيون.


هيكل وثني 

تُشير بعض الدراسات إلى أن موقع بانياس كان مقدّساً منذ فترة عبادة البعول، وهناك مَن يعتقد بأنها هي نفسها موقع معبد بعل جاد أو بعل حرمون. ولكنّ الشائع أن السلوقيين هم أوّل مَن عزا إلى بانياس قِوىً ميتافيزيقية، بعد أن ذكّرتهم مناظرها الطبيعية بموطنهم. لقد نقل هؤلاء أساطيرهم المتعلّقة بالإله بان، إله الرُّعاة، والصيد، والغابات، والحيوانات البرّية، والجبال المشهورة أيضاً بمزماره. ووفق الأسطورة، يعود فضل انتصار السلوقيين على البطالمة إلى هذا الإله، فقد جعل بان فيَلَةَ الأعداء تُصاب بالذعر، خلال معركة فانيون، التي دارت بين الطرفين، من أجل السيطرة على المنطقة، ويُعتقد أنهم اطلقوا على الموقع اسم بانياس بعد هذه المعركة، تكريماً وتخليداً له.

راعٍ في قيصرية - القسم الثقافي
راعٍ يعزف إجلالاً للإله بان بالقرب من بانياس، في عمل نقشيّ من القرن 19 (Getty)

وتصف الأسطورة هذا الإله الوثني، حيث تقول إن نصفه على شكل إنسان، في حين أن نصفه الآخر على هيئة تيس. وتتباين الآراء حوله، فهو يسكن في المغاور والكهوف، وطائشٌ ومرح، ويعزف بمزماره القصَبيّ، أو مزمار الرُّعاة، ويسلّي حوريات الماء والحيوانات، ويعشق النساء، وتعشقه الفتيات والحسناوات، ويقيم حفلات صاخبة ماجنة طوال الليل، ترقص فيها الحوريات على أنغامه، وهو في الوقت ذاته كائنٌ قبيح إلى درجة مُخيفة.

شيّد الإغريق معبداً لهذا الإله، في هذا الموقع الرائع، وقُرب المغارة الكبيرة، التي تشكّل أحد مكوّنات المشهد العام الأساسي، ويُعتقد أن هذا المعبد كان أصلاً لبعل حرمون، وأصبح لاحقاً للإله بان. وهو معبدٌ جمع بين المنظر الطبيعي، الساحر بجماله وهيبته، وبين فنون الهندسة المعمارية والنحت، وبشكل يتناسب مع الطبيعة الخاصّة لهذا الإله، وهي طبيعة محبّبة ومخيفة في آن واحد. كما أقام هيرودوس الكبير في بانياس هيكلاً، تكريماً لأغسطس قيصر، وكلّه من الرخام الأبيض، ولعلّه بنى له أيضاً قصراً.

لقد احتفظ معبد بان بأسراره حتى الوقت الراهن، فكلّ ما عُثر عليه حتى الآن هو بقايا عبادة هذا الإله، ومن أهمّها مجموعةُ تجاويف (كوى جدارية) تزيّنها كتابات إغريقية، منحوتة في الصخر. ويبدو أن تماثيل الإله بان كانت توضع في هذه الكوى، التي تمتدّ على يمين المغارة الكبيرة، حيث يقع التجويف الأوّل فوق مغارة قوسية صغيرة، منحوتة في الصخر، ويبدو للناظر على شكل بوّابة، أو واجهة قصر. وجاء في الكتابة المنحوتة تحت التجويف ما يلي: "هذا التمثال يخلّد بان بن ديوس، الذي يعشق إنجو. الكاهن، فيكتور من أبناء ليسخموس".

ويقع التجويف الثاني إلى اليمين من الأوّل، ويظهر في مركزه نتوءٌ يُعتقد أنه عبارة عن منصّة لوضع تمثال بان عليها. وتُوجد على جانبي التجويف الثالث كتاباتٌ، ضمن أُطُر ذات "آذان". أمّا التجويف الرابع فيقع على مسافة 15 متراً، وبين الصخور المتآكلة والجرف الصخري لبانياس، وهو أشبه بمغارة قوسية، وُتوجد فوقها كتابة طويلة، لكنّها محطّمة، وهي كتابة تمجيد وتسبيح، جاء فيها: "مع معرفة أن فالريوس كاهن الإله بان ساهم بقربانه، من أجل خلاص سادتنا القياصرة (أي تمثال القيصر الذي يرمز إلى سلطته)، والمعبد الموجود تحت التجويف نفسه بناه (أي هو)".


آثار لافتة

وهناك تجويفٌ مربَّع، منحوتٌ في الصخر، فيه كتابة ضيّقة وطويلة إلى جواره، وهي كتابة تسبيح، من سبعة عشر سطراً قصيراً، للحاكم أغريباس بن ماركوس، وزوجته، عن تفسير الأحلام، على يد الآلهة. وتذكر الكتابة أسماء ثلاثة من أعضاء المجلس، وأسماء اثنتين من بنات الأرخون (الحاكم) وهما أغريبينا ودومينا، وتُشير الكتابة إلى تاريخ 223، الذي يوافق 279 ميلادي. 

إلى الشمال من النبع نجد ساحة رئيسية، مبنية على شكل أقواس، وتقوم على صخرة ملساء، وتتشابك في جدرانها أعمدة، ومداميك قديمة، إضافة إلى صخرة منحوتة ملساء، تقع إلى الغرب من الساحة، وترتفع عدّة أمتار. وقد عُثر بالقرب منها على مذبح صغير، وربما حوض تعميد، يعود إلى العهد الروماني ويبلغ ارتفاعه نحو 80 سنتم، وتُلاحَظ في وسطه حفرةٌ مربّعة. والأثر هذا جميلٌ جدّاً، غني بالزينات المحيطة به، من كافّة الجوانب، وهو موجود الآن في مسجد بانياس.

حفر يعود للقرن 19 - القسم الثقافي
نقش يعود للقرن 19 ويظهر فيه أحد روافد نهر الأردن، بالقرب من بانياس (Getty)

وهناك آثار هامّة للغاية، في موقع على مسافة بضع عشرات الأمتار، إلى الغرب من مقام الخضر، وهي عبارة عن أجزاء من جدارين، كانا في الأصل بطول يصل إلى ثلاثين متراً، ويمكن رؤيتهما من الطريق المؤدّية إلى النبع. وتشير هذه البقايا إلى زمن تشييد هذا البناء، فالجانب الخارجي الجنوبي للجدارين متوَّج بحجارة مربّعة جرى تثبيتها في الجدار بصورة متوازنة، ويشبه هذا النموذج من البناء قصرَ هيرودوس الكبير في تلّ أبو علايق جنوبي أريحا.

لقد شُيدت هذه الجدران في بانياس وأريحا بحسب أسلوب بناء روماني، كان مُتَّبَعاً في أيام القيصر أوغسطس، وهو معروفٌ بأسلوب الشبكة. وبالفعل تبدو هذه الجدران كالشبكة، ولا يُستبعَد أن تكون هذه الأجزاء من بقايا بناء عام، كالهيكل الذي بناه هيرودوس في بانياس على سبيل المثال.


تاريخها المسيحي

كانت بانياس أحد أهم المراكز الدينية في الحقبة الهلنستية في عموم منطقة جنوب بلاد الشام، إنْ لم نقل المركز الهلنستي الرئيس. واستحوذت المدينة على اهتمامٍ خاص من جانب السيّد المسيح، بحسب إنجيل متى (16/13 ـ 19)، يتمثّل بزيارة خاصّة لبانياس بالغة الأهمية في المعتقد المسيحي، حيث سلّم فيها يسوع رسولَه بطرس مقاليد السلطة في الكنيسة.

وقد اتّخذ السيد المسيح من معبد بان المكان الذي اختار فيه بطرس ليقيمه راعي رعاة الكنيسة، وأساساً لها، وقد ورد ما يلي: "ولمّا انتهى يسوع إلى ضواحي قيصرية فيليبي (وهو أحد الأسماء التي أُطلقت على بانياس)، سأل تلاميذه، قائلاً: مَن تُرى ابنُ البشر في نظر الناس؟ قالوا: بعضهم يقولون: إنه يوحنا المعمدان، وغيرهم: إنه إيليا، وغيرهم: إنه إرميا، أو واحد من الأنبياء. فقال لهم: وفي نظركم، أنتم، مَن أنا؟ أجاب سمعان بطرس، وقال: أنت المسيح، ابن الله الحي. أجاب يسوع، وقال له: طوبى لك يا سمعان باريونا، فإنه ليس اللحم والدم أعلَنا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات، وأنا أقول لك: أنت صخر، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها، وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات".

لوحة لجيمس تيسوت - القسم الثقافي
لوحة لجيمس تيسوت تصوّر إبراء يسوع لنازفة الدم البانياسية، 1896 (ويكيبيديا)

وتُشير كتب التاريخ المسيحية إلى أن المسيحية انتشرت ببطء في بانياس بادئ الأمر،  بسبب المقاومة الوثنية، واضطهادات الأباطرة، وولاتهم، والحكّام المحليين. وبدأت المسيحية تلقى تجاوباً متنامياً، منذ بدايات السلام الروماني، في عهد الإمبراطور قسطنطين الكبير، بعد أن أطلق الحرّية للدين الجديد، وشجّعه في عام 313، فحظيت مدينة بانياس بكرسيٍّ أسقفي لمنطقة الجولان.


أبرشية بانياس

كانت بانياس كرسيّاً أسقفياً لأبرشية في القرن الرابع، ودخلت ضمن تبعية فينيقية الأولى (الساحلية) وقاعدتها مدينة ومتروبوليتية صُوْر، الخاضعة لبطريركية إنطاكية، في نهاية القرن الرابع ومطلع القرن الخامس. واحتلّت المرتبة الثانية عشرة في سلّم الأسقفيات التابعة لصور، وتميّزت عن هذه الأسقفيات بأنها كانت الوحيدة التي لا تقع على البحر.
وحين انتشرت النزعة الآريوسية بين بعض أبناء المنطقة، اتّهم بهانرقيس أسقفَ بانياس في العقد الرابع من القرن الرابع الميلادي.

وتأثّرت الأبرشية بعض الشيء بالمونوفيسية في القرنين الخامس والسادس، لوقوعها تحت حكم الغساسنة، وذلك رغم أن الأسقفيات الجنوبية كانت خلقيدونية، بعكس الأسقفيات الشمالية (من بيروت إلى الشمال)، التي انضمّت إلى المونوفيسية، عنوةً أو اختياراً. ومع هذا بقيت بانياس مركز مقاومة ضد المونوفيسية، التي تزعمها ساويروس بطريرك أنطاكية (512 ـ 518).


نازفة الدم 

يستطرد المؤرّخون الكنسيون بالحديث عن مكانة بانياس الخاصّة في الديانة المسيحية، ومن بينهم المؤرّخ مالالاس الذي تحدّث عن نازفة الدم، التي أبراها يسوع، وأشار إلى أنها تحمل اسم فيرونيك، بحسب إنجيل نيقوديموس المتحوّل (روبنسون). كما أورد المؤرّخ الكنسي يوسابيوس القيصري، في كتابه "تاريخ الكنيسة"، نصّاً يتناول فيه تمثالاً رفعته نازفة الدم البانياسية، إذ يقول: "وُلدت نازفة الدم، التي أبرأها يسوع، في بانياس. يقولون إن بيتها ما زال يُرى في المدينة والنصب التذكارية المدهشة للفضل الذي منحها إياه مخلّصُنا ما تزال قائمة. فعلى بوّابة بيتها، وعلى حجر مرتفع، ينتصب تمثال نحاسي لامرأة تستند إلى ركبتيها المنحنيتين ويدها ممدودة أمامها كمَن يتوسّل. ومقابل هذا هناك تمثال آخر لرجل منتصب مصنوع من المادّة ذاتها، ملفوف بعباءة، باحتشام، ويمدّ يده إلى المرأة. ويقولون إن هذا تمثال المسيح، وقد بقي حتى أيامنا هذه، وقد رأيناه نحن أنفسنا عندما كنّا نقيم في المدينة". ويُقال إن الإمبراطور يوليان المرتدّ شاهد هذا التمثال أيضاً.

ما تَقَدّم يؤكَّد أن بانياس تحوّلت من معقل وثني إلى مركز مسيحي لعب دوراً كبيراً في تاريخ المسيحية، وضمّ العديد من رموز العبادة المسيحية. فقد شهدت المدينة ازدهاراً شاملاً منذ بدايات العهد الروماني المتوسط، وأصبحت محجّاً يؤمّه الأكليروس للصلاة، ويقصده الحجّاج.

وقد أشار المؤرّخ أوسابيوس القيصري، في كتابه "تاريخ الكنيسة"، إلى معبدين للقدّيس بطرس، وإلى نقْل ذخائر أشعيا النبي، في عام 443، ووضعها في الكنيسة المكرّسة للقديس لورينزو. كما كتب أسامة بن منقذ أن كنيسة مسيحية حُوّلَت إلى جامع، وأشار إلى مقام وليّ بُني بموادَّ قديمة على الصخرة حيث النبع، وعُثر في الموقع على حوض للعماد، مربّع الشكل، مزيّن في وجوهه الأربعة، وكذلك عُثر في موقع قريب على ناووس قبر مارجورجيوس.


موقع صوفي إسلامي

لقد احتفظت بانياس بموقعها الروحاني المميّز لدى المسلمين، حيث اتّخذتها أوّل جماعة صوفية منظَّمة موقعاً لها، وهي جماعة "البلّوطيين"، الذين بدأوا بالتوافد إليها وبناء أكواخهم قربها منذ القرن السابع الميلادي.

وهؤلاء المتصوّفة، الذين كانوا يعيشون على ثمرة البلّوط، هم أتباع واحد من أوائل الزُّهّاد في الإسلام، وهو سفيان الثوري، الذي روى أحاديثَ نبوية تتناول مكانة بانياس الدينية، ورفيقه السلطان إبراهيم بن أدهم البلخي (أحد أئمّة المتصوّفة في نهاية العصر الأموي وأوائل العباسي)، الذي اتخذ بانياس مكاناً لإقامته في أواخر حياته، ويعتقد الكثيرون بأنه توفي فيها. وهناك ضريحٌ له يُزار حتى يومنا هذا.
 

* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المساهمون