إذا ما نُظر إلى الصور الفوتوغرافية بحدّ ذاتها، أي دون معرفة بخلفيتها وبالسياق الذي التُقطتْ فيه، أو تاريخ المكان الذي توثّق له، فإنّها تكون غامضة، وتنكشف أمامنا كصورٍ لشوارع ضيقة وأزقة وأمكنة هامشية لا نراها عادة حين نزور مدينة كبيرة في برنامج سياحي. لكن إذا عرف المرء أن هذه الصور التُقطت في مكان محدّد، هو المخيمات الفلسطينية في لبنان، ثم قام بالبحث وتثقيف نفسه حول هذه المخيمات وأسباب نشوئها، وحرّر نفسه من النظرة العنصرية المحلية؛ التي تعدّ اللاجئين تهديداً، فإنَّ الصورة الفوتوغرافية ستقوده إلى واقع المأساة وتعمّق فهمه لحقيقة قاسية. وغالباً ما يتناسى الجميع هذه الصورة، أو يتعامل معها من باب العمل الإغاثي أو الخيري، الذي لا ينهيها بل يديم من عمرها، متحوّلاً إلى مجرد خدمات تتمّ داخل الواقع المأساوي، تحلُّ مشاكل ثانوية، وتُبقي الواقع قائماً، كما تفعل الأمم المتحدة والمنظمات الخيرية عادةً.
لا يعني هذا أنَّ صور معرض الفنانة الإيطالية باولا بينتوس Paola Pintus هي صور وظيفية، مهمتها تعريفنا بالمأساة وواقع الأطفال داخل مخيمات اللاجئين في لبنان وحسب، بل إنَّ الصور التي أخذتها تجسّد لقطات بارعة وتقدّم لنا قراءة فوتوغرافية تحتاج أيضاً إلى قراءة واقعية وتاريخية. ذلك أنَّ الأمكنة التي تصوّرها هي ابنة سياقٍ تاريخي طويل وفجائعي ناجم عن احتلال فلسطين عام 1948 والأحداث التي عصفت بلبنان، وخصوصاً الحرب الأهلية، وهذا التاريخ الطويل الذي يُلقي بظلاله على المنطقة كلها، واستيقظ أخيراً في غزة، هو الذي أدّى إلى هذا التهميش، موضوع هذا المعرض. فالمعرض يربط نفسه بمهمة نبيلة، وهي نقل أطفال هذه المخيمات من واقعهم المأساوي إلى واقع يمكن أن تزهر فيه إنسانيتهم عبر تقديم برامج تربوية وثقافية ورياضية وسيكولوجية.
تؤرّخ الصورة الفوتوغرافية للحظة عابرة في مكانٍ ما، وتأسرها في متنها. ويكمن خلفَ هذا التصوير هدفٌ، إمّا جمالي بحت أو للتعبير عن وضع ما في المكان المحدّد. وفي كلتا الحالتين تكتسب الصورة جمالية معيّنة؛ ذلك أنَّ في الصور الواقعية للفنانة الإيطالية واقعية سحرية تؤكد بعداً في الواقع لا ننتبه إليه حين نكون في داخله، أو نمرُّ قربه، أو ننظر إليه كما تراه عين المصور. تلك العين التي لا تصوّر فحسب، بل تتدخل وتُؤخّر وتُقدِّم وترفع وتخفض ثم تقيس الأبعاد وتتأكّد من البعد البصري ووضوح التفاصيل ومن العلاقة الماكرة بين الضوء والظل. ثم تجمع كلَ هذه التفاصيل في أفق اللقطة.
صورٌ من مخيمات شاتيلا، والبدّاوي، وعين الحلوة ونهر البارد
واللقطات أو الصور التي نتحدّث عنها هنا هي لقطاتُ عدسة من خارج الحدود، ومن خارج ثقافة المكان المُصوَّر. إنها عدسة متعاطفة وإنسانية ولها رسالة وتهدف إلى تحسين وضع معين في أمكنة التهميش في لبنان، حيث يتكدّس اللاجئون ومعظمهم فلسطينيون، في أحياء ضيّقة متلاصقة أشبه بأحياء الصفيح، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا مدارس ولا حياة أو أفق للحياة الكريمة. لقد جاءت العدسة إلى هنا كي تفضح هذا الواقع بعين إنسانية، وكي تترجم عواطف تضامن متجاوزة الحدود، تؤكد أن للفن دوراً يلعبه في هذا الصراع الكوني ضد التهميش الذي لا يحدث في لبنان فقط، بل في جميع الأمكنة التي تتناسل فيها أحياء الصفيح ويتحوّل فيها اللاجئون إلى آخَر تحاول الذات المتمركزة على عنصريّتها وغرورها قتله واغتياله عبر إبعاده وتهميشه خارج مراكز المدن الحضرية.
والصورة البراقة للمدن التي تُقدَّم عبر الإعلام، كما، على سبيل المثال، يكون الفرق بين أحياء بيروت الفاخرة وتلك المخيمات التي لا تكاد تبين على جسد الخريطة اللبنانية إلا حين ينفجر العنف الكامن والمحبوس والمحاصر، فنسمع عن هذه المخيمات في لبنان، التي هي مرشحة للازدياد في المنطقة في ضوء الحرب التدميرية العنيفة التي تشنها إسرائيل منذ 25 يوماً على الشعب الفلسطيني في غزة وقتل فيها ما يزيد على ثلاثة آلاف طفل حتى الآن.
جسر للحوار
تحت عنوان "جسر للحوار بين مدينة كوارتو وأطفال مخيمات اللاجئين في لبنان"، شاركت بلدية مدينة كوارتو الإيطالية من الثاني عشر إلى الثامن عشر من أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، عبر ممثلين لمؤسّستها في مهمة مراقبة في لبنان كجزء من تطبيق اتفاق التعاون الدولي "مسارات تربوية بديلة للاجئين في لبنان"؛ الذي هدف إلى بناء جسر حوار ومعرفة بين أطفال في سنّ الدراسة يعيشون في مخيمات اللاجئين وأقرانهم في سردينيا. وهدف هذا التدخّل إلى مواجهة تهميش اللاجئين والسكان المهمشين لمخيمات اللاجئين كالبداوي وعين الحلوة ونهر البارد في لبنان، وخصوصاً الفتية الصغار والأطفال بين سنّ السادسة والثالثة عشرة. إضافة إلى مكافحة التسرّب من المدارس، وكذلك من خلال برنامج دعم محدد لعائلات الطلاب المعرّضين لخطر التسرّب، وخلق أماكن لعب وتواصل اجتماعي للأطفال قادرة على ضمان التطوّر السيكولوجي والإنساني والعاطفي الكامل لهم.
هذه هي الخلفية التي أقُيم المعرض في إطارها، إذ إنَّ الفنانة الإيطالية باولا بينتوس، الحاصلة على جائزة "فابيو كوتشي" لحقوق الإنسان في أفريقيا وأميركا اللاتينية التي تقدمها مؤسسة "ليليو باسو" و"جمعية خوليو كورتاثار"، التقطت صور هذا المعرض في أثناء مهمة المراقبة التي جرت في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي. كانت بينتوس آنذاك ممثلة لبلدية مدينة كوارتو الإيطالية. وجاء المعرض بعنوان "جسر للحوار، صور من مخيمات اللجوء شاتيلا، البداوي، عين الحلوة ونهر البارد".
يقول الناقد الفني والمفكر الإنكليزي جون بيرغر إن الصورة الفوتوغرافية تشهد على خيار إنساني يحدث في موقف معين، وهي نتاجُ قرار فنّانٍ ما بأن حدثاً معيناً، أو شيئاً قام بمشاهدته، يستحق التصوير، بالتالي إن الصورة رسالة عن الحدث الذي تصوّره. يذكر بيرغر هذا الكلام في مقالة بعنوان "فهم الصورة الفوتوغرافية" المنشورة ضمن كتاب "مقالات مختارة لـ جون بيرغر"، وتحرير جيوف داير.
بناءً على كلام بيرغر، يمكن القول إنّ هذا المعرض ينطلق من دافع إنساني وتضامني، وبالتالي هناك هدف وراء الصورة، لكونها تمثّل شاهداً على ما يجري، ذلك أن الصور التي تعرض أطفالاً مهمشين في زوايا الشارع، وتلك التي تُظهر البيوت الضيقة والمحاصرة بالأسلاك الكهربائية والهاتفية الخطيرة، وأطفالاً يلعبون أو يجلسون في هذه الخلفية، تريد أن تنقل رسالة إلى المشاهد، رسالة تجمع بين ما هو فني وما هو إنساني. ما يجعل الصورة الفوتوغرافية، نظراً لطبيعتها، أي لكونها سجلاً للمرئيات العابرة، مزيجَ لحظتين: لحظة جمالية، بما أن فيها ما لم يره شخص آخر. ولحظة أخرى تقودنا إلى فهم ما يجري.
فلو أننا انطلقنا من صورة هؤلاء الأطفال، إلى خلفية هذه الصورة، والسياق الذي التُقطت فيه، ودرسنا المكان وحفرنا في تاريخه، لوصلنا إلى أسباب المأساة. وبالتالي لاستند تضامننا إلى معرفة تضيء لنا ما حدث، وتدفعنا إلى أن نتخذ مواقف أعمق، لا أن نساعد الأطفال ضمن المخيم على أن يكونوا إنسانيين، وعلى أن تتفتح زهرة طفولتهم فقط، بل أن نتضامن عميقاً ونقف ضد الاحتلال والاستيطان والنعرات العنصرية والكراهية الدينية والمذهبية، ونصل إلى لحظة إنسانية متجاوزة للحدود. وأعتقد أن هذه هي الرسالة التي توصلها الفنانة الإيطالية لمن يشاهد صور الأطفال في المخيمات في عين الحلوة ونهر البارد وصبرا وشاتيلا حيث حدثت مجزرة مريعة وجريمة مروعة ضد الإنسانية عام 1982.
يقول جون بيرغر في مقالته نفسها المذكورة أعلاه إن ما يميز صورة فوتوغرافية عن أخرى هو إلى أي مدى تجعل الصورةُ الرسالةَ واضحة. والحق يقال أن الرسالة واضحة في صور الفنانة الإيطالية باولا بينتوس، فهي تعكس لنا واقعاً مخيفاً خلف صور جميلة لأطفال مبعثرين على الكانفاس المُمزَّق لحياة محاصرة. وبما أنّها تسجّل ما تشاهده العين، بحسب الرؤية البيرغرية، فإنّها أيضاً تشير إلى ما ننساه عادة، وهو خلفية الصراعات والمشاكل التي أدت إلى تكوين هذه المخيمات.
تروي بصدق معاناة أطفال هُجّر أجدادهم من فلسطين
لا شك في أن الرسالة الإنسانية لبلدية كوارتو هي رسالة تضامنية عابرة للحدود. وهذا المعرض الفوتوغرافي، الذي يتغلغل في تفاصيل المخيمات المريرة يكشف لنا نوعاً من الجمال المتجسد في الصورة، ونوعاً من الإطار الذي يحيط بحياتنا العربية. وهو إطار التهميش الذي لا يتوقف عن التوسع من سورية إلى لبنان إلى غزة. هذا التهميش الذي يزيد من عدد المخيمات، واللاجئين والأطفال محرومي التعليم والمتسربين من المدارس. وكذلك من عدد الضحايا الذين لا يتوقف صراخهم في أذن العالم المسدودة.
إن هذا المعرض الذي يسجل ما شوهد، ويشير إلى ما لا يراه الناس في الغرب وفي كثير من العالم العربي، ينقل التضامن إلى مستوى إنساني أعمق ويؤكد أن الفن بطبيعته، لا يُمكن إلا أن يكون إضاءة للواقع من أجل العمل أو الدعوة إلى تغييره، أو كشف ما لا يُرى أو ما لا يُنتبه إليه فيه. ويرى بعض النقاد أنَّ فن الفوتوغراف سياسيٌّ بطبيعته، ذلك أنَّ الصورة الفوتوغرافية المرتبطة بموضوع محدد، تعبّر عن السياق الثقافي والاجتماعي، كذلك فإنَّ الصور تزلزل القناعات السائدة في أذهاننا، وتربك الصورة الذهنية والمسبّقات التي يشكّلها المرء وتطمئنه حيال واقعه وحياته. بالتالي إنّه حين يرى صورة تعبّر عن مأساة إنسانيّة أو قضية في مكان ما، فإنّ صورته الذهنية تتهدّم ويبدأ بإعادة رسمها من جديد في ضوء ما يراه.
ولهذا قيل إنَّ أفضل الصور الفوتوغرافية هي تلك التي تتحدّى أعتى القناعات الراسخة. وقيل أيضاً إنَّ الصور الجيدة تتضمن سرديات وقصصاً عن الناس والحياة والواقع المحيط، ولهذا تشكّل الصور خطراً، لأنها تصدق وتكذب. ولقد اعتمدت الحكومات المستبدة والديمقراطية والأنظمة الدكتاتورية العسكرية كثيراً على الصور المزيفة والمفبركة، إلا أنَّ الصور التي تقدّمها الفنانة الإيطالية في هذا المعرض، تروي قصة صادقة عن المعاناة التي يعيشها أطفال المخيمات الفلسطينية في لبنان الذين هجّر أجدادهم من فلسطين عام 1948. وهذه الصورة عن حقيقة الواقع في المخيمات تدعونا جميعاً إلى الانخراط في البحث عن حلول. وهنا يحقق المعرض هدفه المزدوج: الجمع بين الجمال الفني والدعوة إلى فعل إنساني إنقاذي أكثر جذرية.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة
بطاقة
Paola Pintus صحافية ومصوّرة فوتوغرافية إيطالية (الصورة). عملت في عدد من الصحف والقنوات التلفزيونية الإيطالية. في عام 2002 حازت جائزة "فابيو كوتشي" لحقوق الإنسان في أفريقيا وأميركا اللاتينية، التي ترعاها مؤسسة "ليليو باسو" وجمعية "خوليو كورتازار". وهي محرّرة في صحيفة Tiscali News Italia في إيطاليا. "جسر للحوار بين مدينة كوارتو وأطفال مخيمات اللاجئين في لبنان"، هو معرضها الفوتوغرافي الأول.