صدر عن "سلسلة أطروحات الدكتوراه" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب المساءلة النقدية لمفهوم الميتافيزيقا في فضاء اللغة عند مارتن هايدغر" للباحث والأكاديمي الجزائري بشير ربوح (1967 – 2019).
يقارب الكتاب مساراً فلسفياً يهتم بنقد مفهوم الميتافيزيقا بطريقة مغايرة تمامًا لما هو سائد في الفكر الغربي، تم الاعتماد فيه على قراءة للمسار الهايدغري وتتبع سؤال الكائن وسؤال الكينونة المنسي من متن النص الميتافيزيقي، حيث عبّر هايدغر عن مرحلة فكرية خطِرة في الفكر الغربي؛ لأنه استشكَل المسألة من جهة النسيان لا من جهة الذاكرة، فهو بحث في الوجه المستبعَد والمقصي واللامفكر فيه.
في الفصل الأول "الأبعاد الأساسية لفكر هايدغر: اللاهوت، الفينومنولوجيا، الهيرمينوطيقا"، يقف ربوح على بعض المعالم الكبرى في المسار الهايدغري، حيث تشكل في الفضاء اللاهوتي، ومنه أدرك أن اللاهوتيات عاجزة عن فهم ذاتها لأنها لا تمسك بموضوعها، ولا تحوز الأدوات والتقنيات والتقاليد التي تجعلها فكرًا أو فلسفة. وعلى أساس هذه التجربة، حكم على عسر الجمع بين المسيحية والفلسفة، والاقتراب من الفينومنولوجيا، الذي تزامن مع انخراطه في المجال البروتستانتي، واطلاعه على سؤال الكينونة، فيكون هايدغر قد ولج عالم الفلسفة. ونظرًا إلى الحركية الفكرية القوية التي كان يعيشها، تعرّف إلى المنجز الهيرمينوطيقي، فبدأ البحث عن معنى الكينونة.
يتتبع الكتاب سؤال الكائن وسؤال الكينونة المنسي من متن النص الميتافيزيقي
"سؤال الكينونة من النصوص الصباحية إلى الانخراط في المشروع اللاهوتي" عنوان الفصل الثاني الذي يقرأ فيه ربوح الدرس التاريخي في فضاء الفلسفة، فيجد أن الكينونة هي سؤال القدر بالنسبة إلى الفكر الغربي، لكن هذا الفكر انخرط في مسار النسيان بسبب عوامل متعددة وأنواع مختلفة من الحجب، وإدراك هذه العوامل خطوة لازمة لفهم تمفصل سؤال الكينونة، وقد ساهمت اللغة في تكريس نسيان الكينونة.
في الفصل الثالث، "سؤال الكينونة وبراديغم الذات"، يسجل ربوح خمس ملاحظات مهمة: الأولى، على الرغم من قيمة المنجز الذي قدمه ديكارت، وخصوصًا في مسعاه الكبير لجهة تأسيس حداثة تنبني على فكرة الكوجيتو، والبحث عن يقين يتعايش مع البداهة القائمة في ساحة الوعي الذاتي المزود بالنور الطبيعي، فإن هايدغر اكتشف في فلسفة ديكارت جملة من القوادح تتلخص في أن الديكارتية تنتمي معرفيًا إلى أفق البحث عن الكائن، وأنها ضاعفت منسوب نسيان الكينونة؛ الثانية، في مسار مخالف لتوجه الكانطية الجديدة، حرص هايدغر على تقديم قراءة أنطولوجية للمنجز الكانطي، نظرًا إلى انشغاله، في الطبعة الثانية من مؤلف كانط نقد العقل المحض، بسؤال الإنسان، وقد تقدم خطوة جهة البحث عن سؤال الزمان المدعم بفكر التناهي، الذي أصبح عند هايدغر هو الأفق الإشكالي لسؤال الكينونة؛ الثالثة، كان لايبنِتز علامة فارقة في مشروع هايدغر، لأنه طرح السؤال الكبير والانعطافي في تاريخ الفلسفة: "لماذا هناك وجود، بدلًا من لا شيء؟"؛ الرابعة، إن المنجز الهيغلي مفتاح مهم لفهم مسار الكينونة بحسبانها فكرًا ينبني على مفهوم الاكتمال؛ الخامسة والأخيرة، التقنية هي الهالة العليا للميتافيزيقا الغربية، نظرًا إلى مراجعاتها الذاتية ونزعتها الأداتية الخالصة.
يقول ربوح في الفصل الرابع "من سؤال التأسيس إلى تخوم التجاوز"، إن "هايدغر لم يكتفِ بتوجيه النقد إلى براديغم الذات، بل حرص على التفكير في البديل المعرفي الذي قدمه في صيغة ميتافيزيقا جديدة هي ميتافيزيقا الدازاين؛ "لأنه أدرك أن الفكر الغربي في حاجة إلى رؤية أنطولوجية تنبني على فكرة ’الأنا موجود‘ الذي استخرجه من ركام ’الأنا مفكر‘، خصوصًا في صيغته الديكارتية، وعلى أساس فكرة الكينونة بحث في معانيها وارتباطاتها مع الحقيقة والزمان والكائن".
في الفصل الخامس، "سؤال الكينونة وأفق اللغة"، يشتغل ربوح معرفيًا على مرحلة المنعطف في فكر هايدغر؛ فيجد أن المنعرج كان استجابة معرفية واستشكالية لمقتضى فكري، "تمثَّل في اكتشاف انخراط اللغة في الميتافيزيقا، وأن هذه اللغة ما زالت منغرسة في خطاب براديغم الذاتية، وأن الاستبدالات التي قام بها هايدغر على مستوى البحث عن مفردات جديدة مثل الدازاين، هي محاولة لا تخرج عن الأفق العام لميتافيزيقا الذات". كما يخلص المؤلف في هذا السياق إلى أن الاعتماد على اللحظة النيتشوية عند هايدغر "خطوة مهمة في معرفة المنعرج وفهم تمفصلاته، حيث تبين من طريق النبش الجينيالوجي في اللغة الميتافيزيقية أنها متورطة في المسار العام لبراديغم الذات، على الرغم من النقد النيتشوي اللاذع الموجَّه إلى مفهوم الذات، باعتبارها خرافة".