استمع إلى الملخص
- لا تقتصر الترجمة والتأويل على النصوص المكتوبة، بل تمتد إلى الحديث اليومي، حيث يستخدم الأفراد عبارات توضيحية مثل "بمعنى آخر" لتجنب سوء الفهم، مما قد يحد من تأويل المتلقي الشخصي.
- وفقًا لرومان جاكوبسون، تتنوع الترجمة إلى: داخل-لغوية، بين-لغوية، وبين-سيميائية، مما يبرز تعقيدها وتنوعها في السياقات الثقافية واللغوية.
يصادف المرء في معيشه اليومي أصنافاً عديدة من الخطابات، التي يتطلّع إلى استيعابها وفهمها، بمجرّد تلقّيه لأيّ شكل من أشكال الرسائل التي تحملها، سواء كانت علامة نصّية أم لغوية أم إشارية، لينتقل بعدها مباشرة إلى تأويلها، والتأويل كما نعلم قول أوّلاً، وتفسير ثانياً، وترجمة ثالثاً، وفق رتشارد إ. بالمر، ونحن بحسب ستاينر، لا نتردّد في أن "نُترجم عند دخولنا في اتصال سمعي أو قرائي مع الماضي". هكذا تكون الترجمة لاحقة دوماً، لأنّ تحقّقها ينبني على نصّ سابق لها، فتكون الترجمة "نسخةً"، ونصّها المعتمد "أصلاً".
ويبدو أنّ التأويل والترجمة يلازماننا دوماً، وأنّهما لا يصدران عن تفاعلنا مع ما نتوصّل به من رسائل فقط، بل إنّنا نلجأ أثناء الحديث إلى التنويع على كلامنا علّنا نُفهم مخاطبنا قصدنا، عند تحريرنا لرسائل أو إصدارنا لعبارات، أو إشارات، أو غيرها، أي عند انتباهنا إلى إمكان وقوع سوء فهم أو تحريف أو التباس، فنتبع كلامنا بمثل هذه العبارات المسكوكة: "في كلمتين"، أو "بمعنى آخر"، أو "يمكن أن نترجمه"، أو "أي"، أو "بعبارة أُخرى"، أو "أقصد"، إلخ، التي نردّدها بنيّة شرح كلامنا رفعاً لكلّ لبس.
والمعروف أنّ الشرح في حدّ ذاته شكل من أشكال الترجمة هو الآخر، كما أنّنا نلجأ إلى تلك العبارات لنُعرب عمّا يغمرنا من إحساس بضيق العبارة، وقصورها عن الوفاء بما يعتمل في ذهننا، ولنفيد أنّ لدينا إحساساً بعجز الصياغة الأُولى عن الوفاء بالقصد، وأنّها وحدها غير قادرة على الدفاع عن نفسها، فنعزّزها بأُخرى، وهي كلّها إفصاح صراح عن سعينا إلى إيصال المعنى الذي نحن نريده، لكنّنا، فيما يبدو، لا ننتبه إلى أنّنا نعمل على إجهاض التأويل لدى متلقّي خطابنا، ونحرمه من حقّه في أن تكون له قراءته الخاصّة، بإصرارنا على جعله يتبنّى ما نريد له أن يستخلصه، وليس ما قد ينتهي هو إلى تمثّله، وواضح أن استعمال هذه التنويعات التعبيرية يدخل ضمن ما يمكن نعته بالمناورات التي ينبغي تسميتها بالترجمة الذاتية.
نلجأ إلى التنويع على كلامنا علّنا نُفهم مخاطبنا قصدنا
وبوسعنا أن نعضد استعمالاتنا التعبيرية هذه، في صيغتها المتحدَّث عنها هنا، بصفتها ترجمة صريحة، بسبب حرصها على شرح الغامض وتفسير المبهم من كلامنا، ولنتذكّر في هذا الصدد ما ذهب إليه رومان جاكوبسون، لما صنّف الترجمة ثلاثة أنواع هي: الترجمة داخل- لغوية، وتعاد فيها صياغة العلامات بعلامات من اللغة ذاتها، كشرح ابن عربي لديوانه "ترجمان الأشواق" بمؤلَّف آخر هو "ذخائر الأعلاق"، أو شرح أبي العلاء المعرّي لديوانه "سقط الزند" بمؤلّف هو "ضوء السقط". والثانية الترجمة بين- لغوية؛ وتُعوَّض فيها علامات لغوية أجنبية علامات لغوية في نصّ الانطلاق. والترجمة بين- سيميائية؛ وتتحوّل فيها العلامات اللغوية إلى غيرها كالسينما، أو الرقص، أو الموسيقى... وضمن هذا الإطار نجد مسوغاً لما ذهبنا إليه من النظر إلى استعمالاتنا التفسيرية باعتباره ترجمة.
ولا يعدم الباحث المهتمّ بحقل الترجمة عناوين تفيد أنّها تُعنى بقضايا الترجمة في تجلّياتها المختلفة، من دون أن تصرّح بذلك مباشرة، كأنّ يصادف عناوين عادية أحياناً، يبدو من ظاهرها أنّ لا علاقة لها بموضوع بعينه، لأنّها تفيد العموم، مثل صيغة عنوان كتاب الباحثة والمنظّرة المصرية منى بيكر "بكلمات أُخرى" (In other words)، أو الإيطالي أومبرتو إيكو "قول الشيء نفسه تقريباً" (Dire cuasi la stessa cosa)، اللذين تطرّقا إلى الترجمة النصّية التحريرية، أو "بكلمة أُخرى" (in altre parole) للأميركية من أصل بنغالي جومبا لاهيري التي تعالج الترجمة الثقافية في سياق ثقافي مغاير هو المجتمع الإيطالي، بعد أن اختارت المنفى، وآثرت أن تعوّض لغتها الإنكليزية بالإيطالية.
* أكاديمي ومترجم من المغرب