استمع إلى الملخص
- تاريخ المتحف الوطني اللبناني: يُبرز المعرض أهمية المتحف الوطني اللبناني كموقع تاريخي، حيث كان يقع على الخط الأخضر خلال الحرب الأهلية، ويعرض توثيق المتاريس التي حمت المقتنيات.
- تنوع الأعمال الفنية: يضم المعرض أعمالاً فنية متنوعة تتوزع على أربع بوّابات، وتشمل لوحات ومنحوتات لفنانين لبنانيين، مما يعكس الغنى الثقافي للبنان.
باتَ الانتقال والتحرُّك في بيروت اليوم الغاصّة بشهدائها، والمُحاصَرة والمقصوفة إسرائيلياً، والمرصودة بأعين المُسيَّرات، يتطلّبُ "بوّاباتٍ وممرّات" بالمعنى المادّي المباشر ربّما، وإن كان التضامن وقراءة وجوه الناس ومراعاة سلامة الحسِّ الجَمعي في البلد المكلوم، فيه الكثير من التوق إلى عُبور منشود أعمق إنسانياً، وهذا ما يُتيحه الوقوف أمام لوحة أو التمعُّن بشريط سينمائي، أو حتى قراءة قصيدة. إنها محاولات عَزاء نُمارسها بمُداراةٍ للخروج من غلالة الحِداد التي تلفُّ حيواتنا.
وحسناً فعَل فريق الجناح الجديد "نهاد السعيد للثقافة" في "المتحف الوطني"، إذ أعلن فَتْح أبوابه - لا "افتتاحه" - للمرّة الأُولى، بالشراكة مع "متحف بيروت للفنّ" (BeMA)، من خلال معرض جماعي مُتعدّد الوسائط عُنوانه "بوّابات وممرّات: سفَرٌ عبر الواقع والخيال"، يتواصل حتى الخامس من كانون الثاني/ يناير المقبل، في محاولة لـ"تجاوُز ما لا يُعقَل... وتنشيط الحياة والحوار في مساحة بقيت أسيرة الصمت على مرّ العقود الماضية". ومن المفارقات أنّه في الوقت الذي فُتحت فيه أبواب المتحف في بيروت، أُعلن مقتل لصّ صهيوني برتبة "مؤرِّخ"، يُدعى زئيف إيرلتش (71 عاماً)، في قلعة أثرية ببلدة شمع الجنوبية، وهو من مستوطني الضفّة الغربية، وكان يُشارك جيش الاحتلال بإبادته المكانية والأثرية للقُرى اللبنانية.
تاريخياً، شغل "المتحف الوطني اللبناني" موقعاً حسّاساً على الخطّ الأخضر الذي فصَل مدينة بيروت خلال سنوات الحرب الأهلية (1975 - 1990)، كما ارتبط اسمُه بأحد أبرز المعابر العسكرية حينها: "معبر المتحف"؛ وبهذا يشتدّ ويتأزّم العبور وفقاً لأحوال الاجتماع اللبناني عبر التاريخ. وهُنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أوّل الصور في البَهو الواصل بين المتحف والجناح الجديد تُوثِّق للمتاريس الخرسانية المُدعَّمة بالفولاذ، والتي أنشأها عالِم الآثار وأمين المتحف الأسبق موريس شهاب (1904 - 1994) لحفظ المُقتنيات في فترة الحرب الأهلية، بل إنّ جزءاً من جدار الحماية الذي أنشأه من الناحية الغربية تُغلِّفه عوازل زجاجية شفّافة تكشفُه للزائرين، وفقاً لرؤية المعمار رائد أبي اللمع الذي وقّع تصميم الجناح الجديد.
محاولة لتنشيط الحياة والحوار بالفنون في ظرف لبناني قاهر
يحتضن الطابق الأرضي من جناح "نهاد السعيد للثقافة" تجهيزاً فنّياً غامراً للفنّان ألفريد طرزي (1980)، يحمل عنوان "نشيد الحبّ" (بالفرنسية أخذ اسم "ترنيمة" hymne à l'amour). ويبدأ ببوّابة خشبية بحجم جذع إنسان، ثمّ تتوالى البوّابات الأكبر فالأكبر وصولاً إلى النواة، حيث تجتمع فيها صور عائلية بالأبيض والأسود و"نُصب تذكاريّ للأُمّ المحتضرة"، أي أُمّ ألفريد نفسه، وهي عالمة الآثار ريناتا أورتالي. لكن بين كل طبقة وأُخرى (عددها الإجمالي 53) من البوّابات يحشد طرزي الأواني والأقواس والأباريق المعدنية والأحصنة والوسائد والقلائد، والخيوط التي تتدلّى من نهاياتها رؤوس صغيرة، والعصي الخشبية والصمديات والخزف الدمشقي والقضبان الحديدية وآلاف الأشياء والخامات الموروثة من القرون 18 و19 و20، والمأخوذة من "متحف آل طرزي" الذي يعود بناؤه لعام 1862.
يُلخِّص "نشيد" ألفريد طرزي، الذي قدّم منه قبل عامين نسخة سابقة في المتحف أيضاً، ثمّ استغرقه الإعداد لهذه النسخة عامين (2022 - 2024) فكرةَ العبور. ومن النافل القول إنّ شيئاً لم يرتبط بالآخر والعبور إليه كالحُبّ. لكنّ هذا النشيد، بارتفاعه البالغ ستّة أمتار، يُحتّم علينا التأمُّل في إيقاعاته الشرقية الصاخبة، أو كما جاء في التقديم "تجوُّلٌ بين أغراض مرتبطة بخيال الاستشراق وتاريخ عائلته الخاصّ المكوّن من حِرَفيّين وتجّار". كما لا يُمكن أن نقرأ هذا التجهيز من دون دخوله، علينا أن نعبره بوّابة بوّابة، روائح الحديد والخشب المُخطَّط بالحَرف العربي "الأرابيسك" ستلعب قليلاً، فضلاً عن شعور باللَمْس بلا مَدٍّ لليد. وكأعماله السابقة، يعتمد طرزي في "نشيد الحبّ" على حِيَلٍ مثل "المتاهة"، حيث الضخامة والإحالات التاريخية تُربِكان المتلقّي لكنّهما جزء من اللعبة، في حين تحضر حيلة "فتح الصندوق" بوصفها تلخيصاً للشعور بالدهشة.
الجناح الجديد تحفة معمارية موازية للأعمال التي يُقدّمها
بالنزول إلى الطابق السفلي تبدأ رحلة "بوّابات وممرّات" الفعلية، والتي تنقسم إلى أربع بوّابات: "الذاكرة" بلوحة تقديمية من توقيع سامية عسيران (1944)، و"أساطير" بعمل لوجيه نحلة (1932 - 2017)، و"الإدراك" بعمل لجورج غوف (1918 - 1990)، و"الأرض" بعمل لجان خليفة (1923 - 1978)، وخلف كلٍّ من هذه اللوحات يقترح المعرض مجموعة أسماء فنّية لبنانية من أجيال مختلفة.
في البوّابة الأُولى، "الذاكرة"، نقف بدايةً على عملَين تشكيليَّين ومنحوتة خشبية واحدة للراحلة سلوى روضة شقير (1916 - 2017)، إذ تُشكّل استعادة رائدة مثلها نوعاً من إضفاء العبقرية الخاصّة. أعمالٌ تعود إلى مرحلة الخمسينيات والستينيات، تتجاور في البوّابة نفسها مع عملَين للمُصوِّر الفوتوغرافي فؤاد الخوري (1952) يعودان لمشروع "وسط مدينة بيروت" الذي أُنجز عام 1993، ومع أعمال لعمر الأُنسي (1969 - 1903)، بالرصاص على ورق. أنجزها في عشرينيات القرن الماضي.
تتضمّن البوابة نفسها أعمالاً للاميا جريج (1972) الفنّانة المشغولة ببيروت مطلع القرن العشرين ووَقْع سنوات الحرب العُظمى (العالمية الأُولى) على المدينة من خلال فيديو يقترح رؤية بانورامية لما بين القرنين الماضيين وحتى خمسينيات القرن العشرين، في حين يُعبّر عملٌ بلا عنوان للتشكيلي نبيل نحاس (1949) أنجزه بين 1980 و1983 عن قلق وسوداوية مرحلة الحرب الأهلية، أمّا ريّان تابت (1983) فيشتغل على قُصاصات من أعمال حفر أصلية مأخوذة من كتاب الفرنسي جول بورغوان "موجز الفنّ العربي" الصادر عام 1891.
البوّابة الثانية، "أساطير"، تضمّ عملَي ديوراما لافتين لرندا ميرزا: "عام الفيل" و"آلهة نوح"، يندرجان ضمن مشروع "الزهرة التي لم تُولد في يوم واحد". بالاعتماد على إحياء تقنية "صندوق الفرجة"، تستعيد ميرزا (1978) إرث المسرح المُصغَّر، مازجةً إيّاه بالتصوير ثلاثيّ الأبعاد. وإلى جانب ميرزا تضمّ "أساطير" أعمال موسى طيبا (1939 - 2014)، وأدريان بيبي (1984)، وغسان زرد (1954)، وسعيد عقل (1926 - 2001)، وجاك دباغيان (1961)، وحاتم إمام (1978).
وكما نقع على اسم سلوى شقير في البوّابة الأولى، يلفتُنا في البوّابة الثالثة، "الإدراك"، اسمُ رائدة راحلة أُخرى هي إيفيت أشقر (1928 - 2024) بعمل عنوانه "طوف قنديل البحر" (زيت على قماش، 2009)، ونبقى مع جيل الروّاد ومنحوتة من خشب الزيتون ملساء مجوّفة تحمل توقيع النحّات ميشال بصبوص (1929 - 2001) أنجزها عام 1969، كما نُطالع أيضاً لوحتين لهلين الخال (1923 - 2009) تنتميان إلى مرحلة الستينيات، وتشعّان باللون الأزرق وأبيض طفيف. كذلك تقترح هذه البوابة أعمالاً لكلّ من: إيلي كنعان (1926 - 2009)، وعارف الريّس (1928 - 2005)، ونصري الصايغ (1978)، ورامي الصباغ (1979)، ودانيال جينادري (1980) التي يقدّم عملاً يتصادى مع لوحتي الخال، أنجزه عام 2014 ودُمّر إثر انفجار المرفأ عام 2020، قبل أن يُعاد ترميمه بعد عام.
ويُختتم المعرض بالبوّابة الرابعة، "الأرض"، وفيها نعود إلى أجواء الروّاد صليبا الدويهي (1915 - 1994)، وشفيق عبّود (1926 - 2004) بجدار كامل يتضمّن ستّ عشرة لوحة متوسّطة الحجم بالإضافة إلى أعمال أُخرى له أكبر حجماً، وتوقيعات لمنير نجم (1933 - 1990)، وعمر الأنسي وعارف الريس (أعمال متوزّعة في عدّة بوّابات)، وكارولين تابت (1974) التي تُقدّم صوراً فوتوغرافية مطبوعة على قماش، وكذلك لارا تابت (1983) التي تقترح مَسحاً ضوئياً لبكتريا على فيلم ملوّن ومطبوع على ورق صُور.