ثلاث سرديات لفلسطين: تاريخ الأرض وروايات أهلها

30 يناير 2023
جانب من الندوة (العربي الجديد)
+ الخط -

ثلاث سرديات وقف أمامها المشاركون ضمن ندوة "فلسطين: جوانب تاريخية"، التي عُقدت اليوم الإثنين في ختام "المنتدى السنوي لفلسطين"، الذي كان "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"  في الدوحة قد أطلق دورته الأولى يوم السبت، الثامن والعشرين من الشهر الجاري، بالتعاون مع "مؤسسة الدراسات الفلسطينية". 

فمن سردية علم الآثار التوراتية التي جنّدها الاستعمار الاستيطاني، إلى الشهادات الشفوية للفلسطينيين قُبيل وأثناء وقوع النكبة، إلى القضية الفلسطينية في القرن التاسع عشر ــ تسهم أوراق الباحثين في تأسيس المعرفة التاريخية والسياسية على أرضية صلبة.


آثار توراتية

لا يتوانى محمد مرقطن، الآثاري والمؤرّخ الفلسطيني والباحث المتخصّص في لغات وحضارات الشرق القديم، عن دعوته للتحرّر من سردية علم الآثار التوراتية في كتابة تاريخ فلسطين القديم. وفي ورقته التي قدّمها، يوضّح مباشرةً أن مسألة التحرّر من علم الآثار الاستعماري ــ بما فيه علم الآثار التوراتية ــ قضية ملحّة للغاية في الدراسات الأثرية اليوم، حيث لا يمكن كتابة تاريخ فلسطين القديم على نحو علمي دون الخروج من منهجيّة علم الآثار التوراتية وموروثه.

ضرورة تفكيك المنظومة الاستعمارية لعلم الآثار التوراتية

وعرض مقرطن بعض جوانب علم الآثار الاستعماري، بما فيه علم الآثار التوراتية، والذي شكّلت مقولاته الركيزة الأساسية للرواية الصهيونية، مركّزاً على عدّة محاور، منها كشْف الستار عن إساءة تحليل واستخدام اللسانيات والنقوش القديمة واللُّقى الأثرية في تفسير الأحداث التاريخية والثقافية في فلسطين القديمة. 

الباحث محمد مرقطن، خلال الندوة (العربي الجديد)
الباحث محمد مرقطن، خلال الندوة (العربي الجديد)

ومن النماذج التي ساقها، ما يسمى بـ"الجرّة الإسرائيلية" و"البيت الإسرائيلي" في العصر الحديدي (بداية الألف الأولى ق. م.)، طارحاً كذلك نماذج من النقوش. تُضاف إلى ذلك ممارسات سلطة الآثار الإسرائيلية غير العلمية في الحفريات الأثرية. وعرض المتحدّث خطوطاً عامّة لتفكيك المنظومة الاستعمارية لعلم الآثار التوراتية، مقدّماً مداخل علمية جديدة لكتابة تاريخ فلسطين القديم بعيداً عن الرواية الحصرية التوراتية، بما يُسهم في صياغة سردية تاريخية فلسطينية تكون قادرة على مواجهة السردية الصهيونية.


روايات غائبة

حضرت حرب 1947 - 1949، وإنِ اختلفت مسمياتها وتحقيبها من باحث إلى آخر، حضوراً مركزياً في مشاريع الرواية الشفوية المختلفة. وكان من أبرز هذه المشاريع مشروعا "جامعة بيرزيت" لتوثيق القرى المدمّرة، و"برنامج شهادات النكبة". مخرجات هذين المشروعين راجعهما بلال شلش، الباحث في مشروع توثيق القضية الفلسطينية في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، في مسعى للوقوف على انعكاس التأريخ العسكري للحرب في هذه الروايات الشفوية.

وممّا ذكره أنّ الروايات الشفوية المسندة لهذا الصنف من التأريخ بقيت محدودة، إذ إن الروايات المنتجة كانت انعكاساً لحاجات تحدّدت مسبقاً، وفقاً لأجندات بحثية محدّدة، ارتبط بعضها بالتوجّهات البحثية للباحثين، أو بنظرتهم للحرب والمعرفة التاريخية المنتجة حولها، خصوصاً المعرفة الصهيونية، ولم يكن التأريخ العسكري بالنسبة إليها إلّا هامشاً.

الباحث بلال شلش (العربي الجديد)
الباحث بلال شلش مقدّماً ورقته (العربي الجديد)

وخلص شلش إلى أن الأجندات المسبقة التي تفترض نمطاً معيناً من الأسئلة قيّدت حدود الإجابات وممكنات الروايات الشفوية المتعلقة بالحرب. وبالنظر إلى النموذج الاستثنائي، أي مقابلات برنامج شهادات النكبة، وجد المُحاضر أن نمط إدارة المحاورة كان عاملاً رئيسياً في الحد من الروايات الشفوية التي من الممكن أن تسهم في التأريخ العسكري.


الهجرة اليهودية الأولى

قد يستغرب البعض عندما يجري الحديث عن قضية فلسطينية في القرن التاسع عشر؛ فهل بالفعل قد تشكلت قضية فلسطينية في ذلك الوقت، أم أنها كانت مجرّد إرهاصات؟ 

راجع بلال شلش مخرجات مشروعين لتوثيق سرديات النكبة

في هذا السياق حاول محمد عثمانلي، وهو باحث يُعدّ دكتوراه في التاريخ العثماني الحديث في جامعة "باموك كله" التركية، فحْص ماهية القضية الفلسطينية في ذهنية البيروقراطية العثمانية المركزية من خلال أحد أهم أسبابها المتشكلة عبر الهجرة اليهودية السياسية الأولى إلى فلسطين (1881 - 1904) بوصفها هجرة سياسية مقصودة لها أساليب وخلفيات متعددة. 

الباحث محمد عثمانلي، خلال مداخلته عبر الفيديو (العربي الجديد)
الباحث محمد عثمانلي، خلال مداخلته عبر الفيديو (العربي الجديد)

وجاءت ورقته بعنوان "الطامعون في عطف ظله الهمايوني: حدود تصور البيروقراطية العثمانية للهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين (1876 - 1904)". وأسّس الباحث مسعاه استناداً إلى وثائق متعدّدة مستخرجة من الأرشيف العثماني ضمن فترة البحث، عبر رسائل الاسترحام الواردة إلى الإدارة العثمانية، من أهمّ الشخصيات اليهودية على اختلاف توجّهاتها، ومناقشة الإجراءات التي قامت بها الإدارة المذكورة تجاه تلك الهجرات ومحاولة استكشاف طبيعتها. 

وقال عثمانلي إن ورقته تروم بيان ذاك المقدار الذي بدأت فيه تعاملات السلطة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر، وبيان تعريف تاريخي خاص عبر مبحث "تاريخ الذهنيات" الذي كان للمؤرّخ الفرنسي لوسيان فيفر الدور في نحته بداية، وبالأخص عبر ما أسماه "المحيط الذهني" لتلك البيروقراطية الحاكمة حول مسألة هجرة اليهود إلى "أرض فلسطين".

المساهمون