استمع إلى الملخص
- نحن مشغولون بأحلام الماضي بينما يعاني أهل غزة من الحصار والدمار، حيث الأطفال جزء من مأساة مستمرة تُكتب في الحاضر.
- يجب أن نكون فاعلين في التاريخ ونواجه الاستعمار والظلم بوعي جديد، مركزين على الحاضر والمستقبل لتقديم أفعال حقيقية لأهل غزة وفلسطين.
بعد هذه الحرب الطويلة التي لا بَعد لها، صار علينا أن نعترف أمام أنفسنا أنّنا لم نستطع أن نفعل أيّ شيء يُذكَر لنجدة هذه البقعة من الأرض وهذي الثلّة من الجماعة.
ربّما علينا أن نعترف - حتى يثبت العكس، ولو بشيء من التحامل والمبالغة - أنّنا بالمجمل لا نملك أيّ أدوات ولا نحسن التصرّف، لا نعرف معنى تحديد الأولويات ولا تشكيل سردية جامعة، حتى إننا لا نجيد بناء حوار فاعل بيننا، ولو على المستويات الضيّقة.
نعم، تركنا هذا الوحش الاستعماري ينفرد بأكثر من مليونَي إنسان، ورُحنا نراقبه وهو يلعب لعبته مع حلفائه في العالم: رجال كثيرون ونساء في استوديوهات وقاعات فخمة غاضبون أحياناً، جذلون أحياناً أُخرى، يتوعّدون أحياناً، وأحياناً يحتفون بأنفسهم، كلابهم غضبى في الشوارع تبحث عن عظمة ينقلهم عضُّها بدورهم إلى استوديوهات وقاعات ضخمة. ونتيجة اللعب؟ أكوام الجثث وفيضان الماء ودخان معركة لا ندري هل هي مستمرّة!
ونحن؟ نحن لا نجيد اللعبة، اللعبة التي خسارتها تلقينا إلى التماسيح الرابضة في نهر صناعي على أبواب عواصم "العالم المتحضّر".
أهل غزّة وأبناء كلّ شعب يُباد لا تعينهم خيالاتنا في شيء
مشغولون نحن كثيراً، حالمون كأنّ الكون دائم، وكأنّ الأرواح تُستنسخ في الحال، فلا معنى لدمار ولا حزن على خسارة، مستعجلون نحن لرؤية غزّة في كتب التاريخ! مستعجلون نحن ليفرد "ابن كثيرنا" مئتَي صفحة يصف فيها ممالك فرنجية مُعاصرة قبل أن يعود مجدّداً ليستفيض في وصف مكارم الأمير ويحتفي بدولته العامرة. مستعجلون نحن لنسمّي الصهاينة تتاراً وشذّاذ آفاق، مستعجلون لدرجة إنْ سافرنا في الزمن وعشنا هناك نرى نهاية هذا المسخ ونحمد الله على خلاصنا منه.
أمّا أطفال غزّة فلا يعيشون كفايةً ليقرؤوا قصص التتار وتفاصيل رحلة الفرنجة الأوائل والأواخر. إنّهم هناك عالقون في كتب التاريخ، محاصَرون في بخارى وسمرقند، تُحرَق مصاحفهم وتُهدَّم دُورهم ويُرمون في الأخدود.
هذا الولع بالتاريخ الذي صار استحضارُ معانيه وأسمائه زوائد لغوية في خطاب الساسة والمثقّفين، منعَ هذا التاريخَ من أن يصير علماً تدرس تراتباته المنطقية كما تُدرَس معادلات الرياضيات وقوانين الفيزياء.
من نحن؟ يعطينا التاريخ إجابات مختلفة، لكنّها صالحة للاستخدام ويمكن دائماً الجمع بينها، والتاريخ إذا صار علماً يدلّنا على النبتة الخبيثة فيسهل استئصالها، ذلك أنّ العلم يدحض الخرافات ويكشف التزوير.
ماذا نفعل؟ أن نصير فاعلاً تاريخياً واحداً، يسأل الأسئلة الصعبة ويجيب عنها بقلب بارد وعزم متّقد، على أن نبقى هنا، في هذا الزمان، في لحظة الإبادة بالذات، على ما فيها من ألم، فكلّما هربنا إلى الأمام؛ استطالت، فكأنّنا نأخذها معنا ونمطّها على صفحات كتاب لن يوجد إلّا إذا كتبناه، ودرسنا فنّ إنشائه.
من هُم؟ استعمار، إمبريالية، عنصرية، تفوُّق الأبيض، الشمال، الغرب، اللوبي الصهيوني، رأس المال، وكلاء مستبدّون، انتهازيون بلا ضمير. هذه أمثلة لمئات من الأسماء الجديدة التي لا بدّ اليوم من أن نُدخلها إلى نظام التأريخ الجديد لتعطينا إجابات منطقية، سواء صغناها دينية أم قومية أم وطنية أم "هيومانستية" (إنسانوية)، وضمن أيّ بناء أكان شاملاً أم مخصّصاً.
وأهل غزّة؟ أهل غزّة وأهل فلسطين وأهل كلّ مدينة محاصَرة وأبناء كلّ شعب يُباد لا تعينهم خيالاتنا في شيء، أَحبّ إليهم أن تُذكر أسماؤهم وأفعالهم في دفتر يوميات يرمونه حين يكبرون إلى غياهب البحر، من أن يكتب المؤرّخ: ثمّ دخلت سنة خمس وعشرين وألفين، وبينما تقرع ساعات العالم احتفالاً بالسنة الجديدة، كان شابّان من غزّة يحملان جثّة طفل ويصرخان: "أوّل شهيد في سنة خمس وعشرين، هيُّه نايم، والله نام جيعان"... فلا حول ولا قوّة إلا بالله!
* كاتب فلسطيني مقيم في ألمانيا