في عام 2003، بثّت محطّة "فرانس ألزاس 3" المحلّية شريطاً وثائقياً لم يعتده، بلا أدنى شكّ، متابعوها: "جان لوك نانسي: جسد الفيلسوف". ما الذي يدعو قناةً تنحصر برامجها بأخبار إقليم فرنسي، هو إقليم ألزاس، وبحالة الطقس فيه، إلى الالتفات إلى فيلسوف يقول كلاماً سيبدو معقّداً لدى أغلب متابعيها؟
لعلّ السبب الأوّل هو أنَّ المفكّر الفرنسي - الذي رحل عن عالمنا يوم الاثنين الماضي، الثالث والعشرين من آب/ أغسطس الجاري - قد قضى أغلب حياته في هذا الإقليم، مقيماً فيه ومدرّساً في جامعة عاصمته (جامعة ستراسبورغ) لأكثر من ثلاثة عقود، وهو الذي وُلد عام 1940 في الطرف الآخر، الغربي، من فرنسا، في مدينة كوديران المحاذية لبوردو. أمّا السبب الثاني، فهو، على الأغلب، الخصوصية التي كانت - وظلّت حتى رحيله - تطبع حياة نانسي، الذي أجرى عملية زرع قلب عام 1992، وكتب عملاً سيَرياً فلسفياً في هذه التجربة، تجربة العيش بقلب شخصٍ آخر، نشره في العام نفسه بعنوان "جسد".
في هذا الفيلم الذي وقّعه المخرج مارك غرون، يرى المتابع مشاهدَ قلّماً يرى فيها فيلسوفاً فرنسياً مُعاصراً: يراه يسبح، شبه عارٍ، ويقطع حطب أشجار للتدفئة، وينقل العشب المجزوز والتراب من منطقةٍ في حديقة بيته إلى منطقة أُخرى، أي أنّه يراه يفعل كلّ شيء سوى الشيء الذي يفترض الحِسُّ المشترَك أنَّ المفكّر يفعله: يتأمّل - كما هو الحال في تمثال "المفكّر" لـ أوغست رودان - ورأسه مسنودٌ إلى قبضة يده المطويّة، أو يجلس إلى طاولته وأمامه كتب وكرّاسات.
شكّل مع فيليب لاكو- لابارت المدرسة الفكرية الوحيدة خارج باريس
لم تكن الفلسفة، بالنسبة إلى جان لوك نانسي، يوماً محصورةً في هذا المربّع الضيّق الذي يرسمه المخيال الجماعي لفعل التفكير. منذ شبابه، ارتبط العمل النظريّ لديه بالتجربة المعيشة، أي بالخبرة التي لا يعرفها إلّا الجسد. هكذا، لم يصبح المفكّر الراحل واحداً من أبرز المفكّرين المعاصرين الذين كتبوا عن سياسة الاجتماع والعيش المشترك إلّا سنواتٍ بعد خوضه، مطلع شبابه، تجربة العيش ضمن مجموعاتٍ صغرى تحمل توجّهاتٍ سياسية وفكرية واجتماعية مختلفة عن المجموعة الكبرى التي تُطلَق عليها تسمية "مجتمع". أمّا تجربة العيش مع الآخر، فربما لم يعشها مفكّرٌ كما عاشها نانسي، الذي ظلّ يتنفّس حتى اللحظة الأخيرة بفضل قلب شخصٍ آخر - وهي تجربة عاد وكتب عنها عام 2010 كتاباً أسماه "الدخيل".
فهْمُ نانسي هذا للشراكة والتقاسم لا يتمظهر في مضمون أعماله النظرية فحسب، بل يطبع سيرته ويشكّل خيطاً ناظماً لها، وهو الذي شكّل مع فيلسوف آخر، هو فيليب لاكو- لابارت (1940 ــ 2007)، ثنائياً متفرّداً على الساحة الفلسفية الفرنسية، حيث وقّعا أعمالاً مشتركة، وعاشا لمدّة حياةً عائلية مشتركة، كذلك شكّلا ما يمكن النظر إليه باعتباره المدرسة الفكرية الوحيدة التي لم تكن العاصمة الفرنسية مسرحاً لها، بل مدينة ستراسبورغ، وجامعتها.
في هذه المدينة المحاذية لألمانيا، طوّر نانسي معرفته بلغة غوته وبفكرها وآدابها، فكتب عن هيغل ("الملاحظة التأمّلية"، 1973؛ و"هيغل: قلقُ السلبيّ"، 1997) وتناول، برفقةَ لاكو - لابارت، الرومانسية الألمانية ("المطلَق الأدبي: الرومانسية الألمانية ونظريّتها الأدبية"، 1978). ومرّةً أُخرى، لم يكتف نانسي بتمكّنه إلى حدّ بعيد من "تخصُّصٍ" ما؛ فما إن يجد نفسه قد توسّع إلى حدّ كافٍ في مسألة (الاجتماع) أو تجربة ما (هيغل والرومانسيون الألمان) حتى يغادر إلى مسألة أُخرى، مُحترماً في هذا ما يسمّيه شرطَ الجسد، أي رغباته المتتالية والمختلفة وتنوُّع مصادرها.
هكذا، سنجد الفيلسوف في صورة شديدة المرونة، بعيدة عن المدوّنات السيستمية؛ صورة تسعى إلى التقاط عناصر الراهن ومتغيّرات التاريخ، وهو ما يمكن الوقوف عليه بمجرّد النظر إلى آخر أعمال نانسي الذي أصدر، قبل أسابيع من رحيله، كتابين شديدي الراهنية: الأوّل عن فيروس كورونا ("فيروسٌ مفرط بإنسانيّته")، والثاني عن أساليب إيمانويل ماكرون في حكم فرنسا ("أقنعة ماكرون"، 2021).