في أيار/ مايو 2011، زار جبّور الدويهي، الذي رحل أوّل أمس الجمعة، الجزائر للمشاركة في واحدة من الندوات الأدبية التي كانت "الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي"، التابعة لوزارة الثقافة، تُنظّمها بشكل منتظَم لم يستمرّ طويلاً. كانت تلك زيارتَه الأُولى إلى الجزائر، وكانت الأخيرة أيضاً.
في "دار عبد اللطيف"، حيث أُقيمت الندوة، استمع الحاضرون إلى كاتب لا يتخلّى عن نبرة صوته الخفيضة وهو يتحدّث بلُغتَين، العربية والفرنسية، عن ماضي لبنان وحاضره، أيْ عن رواياته التي يحضُر فيها قدرٌ واضحٌ مِن الالتزام لا يُخلُّ بالشرط الفنّي. في تلك السنة، وصلَت روايتُه "مطر حزيران" إلى القائمة القصيرة في "الجائزة العالمية للرواية العربية"، وكانَ ذلك بالنسبة إلى كثيرين مناسبَةً لاكتشاف هذا الصوت الروائيّ القادِم مِن شمال لبنان. أصدر الدويهي أوّل كُتبه في 1990، أيْ قبل أكثر من عشرين عاماً مِن تاريخ الندوة، لكنّنا في بيئةٍ لا تتعرّف إلى كُتّابها إلّا حين تُرفَق أسماؤهم بأخبار الجوائز أو المنع أو الموت.
بعد الندوة، وجدتُني مع الروائي اللبناني الذي راح يُحدّثني، مِن دون أن يتخلّى عن نبرته الخفيضة، عن المطر/ الرصاص الذي انهمر في قرية مزيارة بقضاء زغرتا، مسقط رأسه، حين كان في الثامنة مِن عُمره. في صيف 1957، تبادلَت عائلاتٌ مسيحية النارَ داخل كنيسة بسبب الصراع على المال والسلطة في خضمّ الانتخابات النيابية. وفي غضون ثلاث دقائق فقط، سقط أكثرُ مِن ثلاثين قتيلاً. كان ما حدث بمثابة "الدورة الأُولى" مِن الحرب الأهلية التي ستعصفُ بلبنان بعد قرابة ثمانية عشر عاماً مِن ذلك. استخدم جبّور الدويهي هذا التعبير وهو يُضيف بأنَّ "أبطال" تلك المجزرة تصرّفوا تماماً مثلما سيتصرّف فرقاء الحرب لاحقاً: هدمٌ ونهبٌ وقتل واختطاف، بل إنّهُم فكّروا في تطليق زوجاتهن اللواتي ينتمين إلى "المعسكَر الآخر".
لم يتخلّ عن نبرته الخفيضة وهو يتحدّث بلغتين: العربية والفرنسية
كان عليَّ أن أسأله، حين علمتُ أنَّ عائلته كانت طرفاً في تلك الحادثة، إن كانت عودتُه إلى تاريخ محلّي بهذه الدرجة مِن الحساسية قد سبّبت أيَّ مضايقات له، فأجابني بأنَّ بعضهُم حاول تعقُّب أحداث الرواية وشخصياتها ليعرف ما إذا كانَ الهدف مِن العمل هو "تصفية حسابات عائلية"، لكنَّ المحاولة أتت بنتيجة سلبية: "لعلّني نجحتُ في وصف العنف بموضوعية، وطمس الأسماء والإشارات إلى الشخصيات الحقيقية".
نحنُ في 2011، في السنة الأُولى مِن ثورات "الربيع العربي" التي بدأت بتونس ثمّ امتدّت إلى مصر فليبيا فاليمن فسورية فالبحرين. وكانَ عليَّ أن أسأله، أيضاً، عن رأيه في ما يحدث، فأجابني: "إن كان الهيبيُّون، قد رفعوا قبل سنوات شعار "أوقفوا العالم نريد أن ننزل"، فإنَّ لسان الشباب العربي اليوم يقول: ''أوقفوا العالم، نريد أن نصعد"، مضيفاً: "أنا واثق بأنه سينجح في إيقاف قطار التاريخ ليصعد، لأنّ إرادته في الالتحاق بالعالم ستنتصر في النهاية".