كان الكولونيل الفرنسي فيغو روسيلون (1774 - 1844م)؛ واحداً من الذين شاركوا في الحملة الفرنسية على مصر والشام عام 1798م، وقد دون وقائع الحملة في يومياته، فجاءت حافلة بالتفاصيل التي صيغت بأسلوب أدب الرحلات، وبعد وفاة والده بنحو نصف قرن اختار نجله نشر مقتطفات منها في العام 1890.
كتب روسيلون أنه خدم بلده لمدة خمسة وأربعين عاماً، من 1792 إلى عام 1837م، وخاض اثنتين وعشرين حملة، دون انقطاع تقريباً، وشارك في أربع وسبعين معركة، أصيب فيها بستة جروح. وكان قد تطوع في العام 1793، ووصل إلى رتبة مقدم في العام 1813؛ بعد أن حصل على وسام جوقة الشرف. وفي محاولة منه لشرح أسباب كتابته هذه اليوميات التي تركها لعائلته؛ قال إنه لم يكن يثق بتقارير الآخرين. وأنه كتب فقط ما رآه بنفسه من دون أي ادعاء.
يخبرنا روسيلون أن الجنرال نابليون بونابرت وصل إلى طولون في السادس من أيار/ مايو 1798، وكانت برفقته مدام بونابرت وسكرتيرتها فوفيليت بوريان. ويقول إن الجنود كانوا يحبون الجنرال لأنه قادهم سابقاً إلى النصر. وبعد أن وزع المهمات وقسم القوات، قال لجنوده إنهم سيواجهون أعداء لم يسمهم، وإنهم سيعبرون صحارى، وسيوجهون ضربة قاتلة لإنكلترا، عدوة فرنسا الأبدية، بحسب تعبيره.
الحملة المصرية
انطلق الأسطول الحربي الفرنسي، المكون من 400 سفينة، باتجاه كورسيكا، ثم توجه إلى شواطئ صقلية التي ساروا بمحاذاتها وهم متجهون إلى مالطا، حيث أعلنها نابليون ميناء مملوكاً للجمهورية الفرنسية، وترك فيها حامية من أربعة آلاف جندي تحت إمرة الجنرال فوبوا. وبعد اثني عشر يوماً من مغادرة مالطا، رسا الأسطول في ميناء الإسكندرية، في يوم 3 تموز/ يوليو 1798، من دون أي مقاومة.
يقول روسيلون: "لم يكن بونابرت راغباً في منح البكوات الوقت لتحصين أنفسهم في الإسكندرية، فقد بدأ في اليوم التالي الهجوم على المدينة بحوالي 4 آلاف رجل كنت جزءاً منهم. مشينا نحو الإسكندرية. لم يدافع عنها سوى عدد قليل من الإنكشاريين الأتراك، وطواقم سفن قليلة من تلك الأمة، وبعض من العرب. لم يكن لدينا مدافع بعد، ولكن بما أن المكان كانت به حامية ضعيفة، قمنا بالهجوم فوراً. كنت من أوائل الذين وصلوا إلى الجدار. وكنت أمد يدي لمساعدة القائد الثاني في اللواء عندما اندفع فجأة تركي من خلف جدار وقتل العقيد.. استولينا على المدينة، لكن الناس أطلقوا النار على بعضهم البعض في الشوارع طوال الليل. وفي اليوم التالي، استسلم الأتراك، الذين كانوا قد انسحبوا إلى حصن المنارة".
بعد خمسة أيام من احتلال الإسكندرية، توجه الجيش الفرنسي إلى القاهرة، فدخلوا صحراء رملية حيث لا مياه طوال اليوم. وكانت حرارة الشمس لا تطاق، بينما كان الليل شديد البرودة. وفي اليوم العاشر وصلوا إلى قرية بركة غطاس التي يقول إنها كانت قبيحة، حيث وجدوا بعض المياه السيئة للغاية. وحدثت فوضى بين الجنود بسبب الجوع والعطش، وزاد الطين بلة أن العرب قتلوا جميع الجنود المتخلفين عن الركب. وفي 11 يوليو/ تموز، وصلوا إلى دمنهور، وكانت هذه القرية أول مركز مأهول يصادفه الجيش الفرنسي. وقد وصف روسيلون القرية بأن مظهرها كان بشعاً، وأن سكانها كانوا بائسين.
مطاردة السراب
في اليوم التالي واصل الجنود رحلتهم، وهم يسيرون في طابور، يطاردون السراب إلى أن وصلوا إلى قرية الرحمانية على ضفة النيل، حيث ألقوا بأنفسهم في مياه النهر، ولكن العواقب كانت وخيمة إذ إن العديد منهم قتلوا، أو تشوهوا، بأسنان التماسيح الجائعة. وفي اليوم نفسه انضم إليهم أسطولهم الذي دخل النيل عبر مصب روزيت (الرشيد).
ويبدي روسيلون ملاحظات حول الفوضى التي وقع فيها الجيش الفرنسي، والتي كلفته حياة الكثير من الجنود قضوا عطشاً، أو انتحروا يأساً أو قتلوا أثناء تخلفهم عن الطابور على يد البدو. ويقول إنهم صادفوا في طريقهم كميات هائلة من القمح لم يعرفوا ماذا يفعلون بها، واكتفوا بتناول البطيخ والشمام.
وفي منطقة شبراريس اندلعت معركة مع المماليك يصفها روسيلون بقوله: "لقد تعرضنا لمضايقات من جانب فرسان العدو، وتبعنا البدو من بعيد. وأي رجل ضل مائتي خطوة ضاع. أثناء المسير اقترب ضابط مملوكي من ميداننا وصرخ لنا باللغة الإيطالية: إذا كان بين الفرنسيين رجل شجاع، فأنا في انتظاره. لم يكن فرساننا في وضع يسمح لهم بمواجهة هذا التحدي في ذلك الوقت. تبعنا المملوكي، واستمر في إهانتنا، بينما كان يركض حولنا. لقد حاولنا طرده عدة مرات دون جدوى، إلى أن تمكن رقيب من قتله برصاصة في رأسه.
ومن قرية علقام يتمكن الجيش الفرنسي من رؤية الأهرامات، وذلك قبل أن يصلوا إلى القناطر الخيرية حيث ينقسم النيل إلى فرعين.
معركة الأهرامات
وبعد ذلك يتابع الجيش الفرنسي تقدمه على شكل مجموعات متراصة، فيصادفون معسكراً للجنود المماليك قرب الأهرامات. ويقول إن هذا المعسكر مكون من خيام وأجنحة من جميع الألوان، كما هو الحال أيام الحروب الصليبية، ويضيف أن المآذن العالية لمدينة القاهرة ظهرت في الأفق، بينما كانت الأهرامات على اليمين.
وكأنه يرسم صورة بانورامية يقول روسيلون: "تحرك وسط هذه الصورة الفخمة للجيشين وأصبحا جاهزين للمواجهة. من المستحيل أن ترى شيئاً أجمل وأكثر تنوعاً من فرسان المماليك. ورغم أنهم كانوا أعداء، فقد أذهلت أعيننا ألوان أزيائهم الجميلة وراياتهم المتألقة. وضعت سفن النقل المؤن التي تتكون من القليل من الماشية واللحوم المملحة ونبيذ بروفانس والبراندي، وتم توزيعها بما يكفي لعدة أيام. كانت فرقة الجنرال رينيه، التي كانت على يميننا، أول من تعرض للهجوم، على الرغم من أن هذه الفرقة كانت مكونة من جنود متمرسين، إلا أنها اضطربت قليلاً بسبب الفراغ الناتج عن سقوط عدة فرسان مع خيولهم كانوا قد أصيبوا برصاص قريب، واستغل نحو خمسة وعشرين مملوكاً هذا الاختراق لدخول الميدان. ولكنهم قُتلوا جميعاً".
ويبدو أن الحظ لم يحالف المماليك فقد ذهبت قذائف مدفعيتهم هباء بسبب عدم تثبيتها على منصات، فهاجم الجنرال بون معسكر المماليك، ونجح بالوصول إلى قرية إمبابة التي كانت تشكل حماية لميسرة المعسكر. وكان دخول إمبابة بمثابة نهاية للمعركة التي انتصر فيها الفرنسيون، وحين حاول المماليك الفرار كان مدخل القرية مليئاً بجثث الرجال والخيول والجمال التي سقطت تحت نيران الفرنسيين، وهو ما شكل حاجزاً عالياً. وكانت مذبحة مروعة لم يكن فيها أسرى، كما يقول روسيلون الذي وصف المشهد بقوله: "كان مشهداً رهيباً. تخيل منظر جثث أكثر من أربعة آلاف رجل، معظمهم من الفرسان داخل فناء محاط بسور؛ وكان هؤلاء قد أطلقوا النار بجميع الاتجاهات، وهم يحاولون الفرار. لقد تم إطلاق النار على كل من قفز إلى الماء، ولم يتمكن سوى عدد قليل من الفرسان من عبور النهر مع خيولهم. كان إبراهيم بك، الذي نزل على الضفة اليمنى، يتفرج بثبات على القتال الذي كنا نخوضه ضد زميله مراد بك".
بعد هذه المعركة جاءت الوفود إلى المعسكر الفرنسي لتخبر الجنرال بونابرت بأن القاهرة استسلمت، فتوجهت القوارب الفرنسية يوم 23 تموز/ يوليو إلى الجانب الآخر من النيل، ودخل الفرنسيون العاصمة المصرية، بينما عسكر لواء روسيلون في موقع بركة الفيل.
وصف القاهرة ومهمة في الصعيد
في وصفه لمدينة القاهرة يقول: "القاهرة كبيرة جداً ولكنها سيئة البناء. شوارعها الضيقة، تشبه تلك الموجودة في الشرق كله، ليست معبدة وقذرة. والشعب بائس. منازل المماليك كبيرة ومليئة بالنساء. رفاهيتهم الرئيسة تتمثل بامتلاكهم خيولا جميلة وأسلحة براقة. لا يمكنك معرفة عدد سكان القاهرة لعدم وجود سجل للأحوال المدنية هناك. كان من المفترض، عندما وصلنا، أن يكون عددهم حوالي 600 ألف نسمة، من بينهم العديد من اليهود والمسيحيين من جميع الكنائس، وثمة عدد قليل من التجار الأوروبيين، ولكن غالبية أهل القاهرة من المسلمين.. المنازل مغلقة باستمرار للخارج. والبيوت الفقيرة لها نوع من النوافذ هي فتحات تهوية. منازل المصريين الأغنياء لا نوافذ لها تطل على الشوارع، بل تنفتح على الأفنية الداخلية. ولجميع المنازل مشربيات. توجد مساجد كبيرة جداً في القاهرة، تعلوها عدة أبراج، تسمى مآذن. عدد المآذن الكبير جداً يضفي على المدينة مظهراً رائعاً للغاية. ليس هناك ما هو أكثر غرابة من سماع المؤذنين الذين من أعلى هذه المآذن يعلنون الأوقات، ويدعون المسلمين المؤمنين للصلاة".
صدرت أوامر الجنرال رامبون بنقل الكتيبة التي يتبع لها روسيلون إلى الصعيد، وتحديداً إلى قرية الفيل، التي تبعد عن القاهرة حوالي 70 كيلومتراً، ويقول إنها قرية كبيرة تقع على الضفة اليمنى لنهر النيل، وبيوتها مبنية من الآجر الذي يترك ليجف في الشمس. ويبدو أن الإمدادات كانت تصل إليهم من القاهرة بانتظام عن طريق سفن مخصصة لهذه المهمة، وهي تتكون من لحم الجاموس، أو لحم الضأن، والأرز، أو العدس، والخبز المصنوع من دقيق القمح، ولكن دائماً ممزوجاً بدقيق الذرة عند تحضيره من قبل السكان. ويقول إن هذا الخبز كان يصنع في أفران تستخدم روث الجاموس المجفف.
ويروي لنا روسيلون الكثير من مغامراته في هذه المنطقة، حيث كانت القوة الفرنسية ضعيفة ومهددة بالقتل، لولا حماية الزعماء المحليين. ولكن جاء اليوم الذي ثار فيه الناس ضد الوجود الفرنسي ونشبت معركة كبيرة ارتكب الفرنسيون فيها مجزرة. كما أحرقوا في طريق عودتهم إلى القاهرة عدة قرى دمروها على رؤوس ساكنيها، كما قاموا بذبح جميع سكان قرية يسميها تيفينيه. ومع ذلك لم تتوقف الثورة، وواصل المصريون هجماتهم على القوات الفرنسية حتى الجيزة.
بعد ذلك ينقل لواء روسيلون إلى قلعة القاهرة التي يصفها بقوله إنها: "قلعة قديمة، ويبدو أنها أقدم من القاهرة نفسها. قام الفرنسيون بإصلاحها قليلاً ووضعها في حالة دفاع. نرى في قلعة القاهرة بئراً واسعة جداً وعميقة جداً، يُطلق عليه في البلد بئر يوسف. يبلغ عمقها 300 قدم تقريباً. تم حفرها في صخرة هشة بحيث تم إنشاء منحدر حلزوني في الجدران لشرب الحيوانات الأليفة".
ثورة القاهرة
في الثامن عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، انطلقت مسيرات احتجاجية في مدينة القاهرة. ويقول إن بضع مجموعات من سلاح الفرسان والمشاة كانت كافية لتفريقهم. وفي اليوم التالي تواصلت الاحتجاجات، أما في صباح يوم 20 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد تعرض الفرنسيون الذين كانوا في شوارع القاهرة للضرب والقتل. فأتى رد الفرنسيين عنيفاً، ووقعت اشتباكات غير متكافئة، إذ استخدم الفرنسيون الرصاص وحتى المدفعية في قمع المظاهرات، ومع ذلك قتل قائد القوة الفرنسية في القاهرة الجنرال دوبوي برمح.
يقول روسيلون متابعاً وصفه لوقائع الثورة: "في الساعة الثانية بعد الظهر، أمر الجنرال بونابرت بإلقاء قنابل من القلعة على حي المتمردين. لقد نجح ذلك بشكل كبير. بعد هذا القصف تم تنفيذ هجوم على المسجد الكبير. كانت هنالك مقاومة قوية، ولكن تم اختراقها، ووقعت مذبحة. توسل المتمردون من مناطق أخرى من أجل الرحمة. وتم البحث عن قادة التمرد؛ أولئك الذين أمكن اكتشافهم، وبعد ذلك تم اعتقالهم وإطلاق النار عليهم من دون رحمة".
بعد هذه الثورة وعدد من المهمات الإضافية في الصعيد، يشارك روسيلون في الحملة الفرنسية على سورية التي شاركت فيها فرق الجنرالات كليبر، ورينيه، ولان، وبون، وسلاح الفرسان بقيادة الجنرال مورات. وفي هذه الفترة وصلت الأخبار بتدمير الأسطول الفرنسي في ميناء أبوقير على يد الأدميرال البريطاني نيلسون، حيث باتت مصر بمثابة سجن كبير للفرنسيين.
نحو سورية
في سورية واجهت القوات الفرنسية مقاومة عنيفة من جانب الحاميات العثمانية، وارتكبت مذبحة مروعة بالأسرى الذين استسلموا في يافا، حيث يقول: "أثناء عمليات النهب في يافا أصيب الجيش الفرنسي بالطاعون، وكان أضعف من أن يحتفظ بستة آلاف أسير.. فالجيش، الذي كان يفتقر إلى الطعام، لم يكن يستطيع إطعام الأسرى. وخشية من انضمامهم إلى القوات المعادية في حال أطلق سراحهم، وجد الجنرال بونابرت (الصورة) نفسه في إحراج شديد تجاه هؤلاء الأسرى. لقد اتخذ قراراً رهيباً، وبخه أعداؤه بسببه كثيراً".
وبعد أن يشرح بالتفصيل ما جرى في عكا، وكيف فكر بونابرت بتدميرها على من فيها لو توفرت بين يديه الذخائر. وكانت خصيلة قتلى الفرنسيين كبيرة جداً إذ زادت على ثلث أفراد الحملة، أما الجرحى فزاد عددهم على 1200 آخرين. وقد طلب بونابرت بتسميم الجرحى الفرنسيين، لكن كبير الأطباء ديسجينيت رفض ذلك وقال له: "وظيفتي أن أعالجهم، لا أن أقتلهم". وقد خلقت هذه المشكلة أزمة بين الجيش ونابليون الذي بدأ نجمه بالأفول بعد عكا.