حتّى عامه السادس والخمسين، كان الكاتب الألماني جورج زيمل يعيش في مدينة برلين. أبصر الطفل النور مطلع آذار/ مارس عام 1858 في شارع فريدرش، المعروف، في وسط المدينة، والذي يبدأ بالقرب من "جامعة هومبولت" وينتهي في محطة هاليشستور. لم يكن متوقَّعاً أبدًا أنّ هذا الشارع سيصبح أهمّ مراكز التسوّق في المدينة مستقبلاً، وسينال مصيره من الانشطار في فترة الحرب الباردة، مع تصدّع المدينة إلى شرق وغرب. بل إنَّ حاجز تشارلي التاريخي، المعلم السياحي الأكثر إزعاجاً لمقيمي المدينة، يقع تماماً فيه.
رأى الطفل من شبّاكه أوّل وسائل النقل العام في سبعينيات القرن التاسع عشر، لمّا كانت الخيول تجرّ العربات. هواء المدينة كان لا يزالُ نظيفاً، لأنّ حرق الوقود الأحفوري لم يكن قد تحوّل بعد إلى وسيلة أساسيّة لاستخلاص الطاقة. أبدى هايدغر اشمئزازاً شديداً من برلين في رسالة إلى زوجته، إذْ وصف حركات سكّانها بأنّها تحمل "إيماءات جنسية خبيثة"، واشتكى من "الهواء الصناعي" الذي شمّه أثناء إقامته المؤقّتة في شارع فريدرش عام 1918، وهو، للمفارقة، العام الذي غادر فيه زيمل الحياة.
عاصرَ الطفلُ زيمل تحوُّلَ برلين من مدينة صغيرة، يألف سكّانها وجوه بعضهم، إلى حاضرة عالميّة ضخمة؛ من مكانٍ يعرف فيه المنتِجُ المستهلكَ إلى مكان لا يعرفُ فيه أحدٌ أحداً، والكلُ فيه منتِجٌ للسوق. في عام 1871 صارت ألمانيا دولةً قوميّة موحّدة، وتحوّلت برلين من عاصمة بروسيّة إلى عاصمة الرايخ الثاني. العاصمة الجديدة تريد اللحاق الآن بلندن وباريس، حيث الثقافة العامّة والنزعة الاستهلاكية والتصنيع العالي. أُنيرت المدينة بشبكات الكهرباء، واستُبدلَت الأحصنة بمحركّات تُقاس قوّتها بالأحصنة؛ ارتفعت مداخن المصانع كأيادي الخاشعين، وتكاثرت المباني السكنيّة. قلّتِ البيوت المستقلّة وهيمنت الشُّقَق، وازدهرت القطارات في الشوارع كالأفاعي، وتراصّت المجمّعات البيروقراطيّة.
برصده تحوّل برلين، عرض زيمل معضلة الإنسان المعاصر
عام 1900 كانت برلين المدينة الأكثر نموّاً وحداثةً في العالم. شعَرَ زيمل بالتحوُّل داخله، وكثَّف محاضراته كمدرّس محاضر، أو كمدرّس غير مثبّتٍ في منصبه، في "جامعة هومبولت"، التي لن يحصل أبداً على منصب الأستاذية فيها. أسباب إقصائه من الحصول على وظيفة ثابتة متنوّعة؛ منها: جذوره اليهوديّة، ورفضه الانضواء تحت لواء أيّ مدرسة فكريّة، والاتّهام الشائع بأنّه "كاتب مقالات". محاضراته كانت مكتظّة بالحاضرين، ولم يكن أغلبهم تلاميذ أو على علاقة بالجامعة.
لم يدخل زيمل من الفلسفة إلى اليوميّ، بل من اليوميّ إلى الفلسفة. تناول في مقالاته تفاصيل حسّاسة وغريبة تحدث مع الجميع، كمدخل لصلب الأفكار؛ مثل: نظرة كلب قُبيل الموت، أو لحظة اندلاع الكهرباء الجنسيّة بين البشر، أو شراء شخصٍ حذاءً باهظ الثمن يحميه من الاستهلاك بوضعه في الخزانة كصنم. في عام 1903، وبعد أنْ نضجت برلين كمدينة كبرى، كتب مقالته الأكثر شعريّة: "المدن الكبرى وحياة الروح"، المؤلّفة من 47 صفحة.
برصده تحوّل برلين من ضاحية صغيرة إلى مدينة عالمية، عرض زيمل المعضلة الأساسية لدى الإنسان المعاصر. التوتّر بين نزعتين: الرغبة الذاتيّة في الاستقلالية والتفرّد، والقوة الموضوعيّة التوحيديّة للمجتمع. مشكلة الإنسان القديم كانت مع الطبيعة، بهدف الحفاظ على وجوده الجسديّ، لكنّ مشكلة الإنسان المعاصر مع المجتمع، مع أقرانه، للحفاظ على تفرُّده النفسيّ. ومن المهمّ أنْ نذكّر أنّ زيمل لم يمتلك أيّ "فوبيا" من التحضّر، ويجب تمييزه من الاتجاهات والوجوه الفلسفيّة التي كانت ترى في التحضّر إفساداً للطبيعة البشرية، وتناقضاً معها ــ وخصوصاً نيتشه.
يبالغ سكّان المدن الكبرى كي يكونوا مسموعين في فوضاها
لاحظ المفكّر الألماني أنّ المدينة الكبيرة قسمت النفس الإنسانية إلى منطقتين متمايزتين: الوجدان والعقل. في الوجدان تتفاعل المشاعر بطاقتها القصوى مع المؤثّرات التي تكون منتظمة في ظهورها واختفائها، والتي لا تعاني من التحوُّل السريع والاختلاف الجذري: المؤثّرات الأكثر توقّعاً وانضباطاً ومُحافَظةً. في المقابل، يعطّل العقل استجابة المشاعر القصوى، لأنّ على إنسان المدينة التكيّف مع الإيقاع السريع لظهور واختفاء المؤثّرات. ستُستهلَك كلّ النفس إذا لم يطوّر إنسان المدينة خاصّيّة التكيُّف، وستُحرَق إذا استجاب الوجدان بكامل كفاءته لأيّ مؤثّر عرَضيّ.
يلعب العقل دور العضو الحامي للوجدان، الجنديّ الحارس ضدّ سرعة تغيّر الخارج. العقل الناشئ في المدن الكبرى، العقل المديني، هو آلية حماية نفسيّة داخليّة ضد اعتباط الخارج وفوضاه. الوجدان يتعامل مع الدائرة الاجتماعيّة الضيّقة، أمّا العقل فيتعامل مع المحيط الاجتماعي الأوسع.
والحال، فإنَّ تمايز العقلانيّة النهائي داخل نفس إنسان المدينة نما بشكل أوضح في ظلّ هيمنة الاقتصاد النقدي. هيمنة المال الذي يتوسَّط كل عمليات التبادل بين كلّ الأشياء. العقلانية المدينيّة والاقتصاد النقديّ مُرتبطان بالعمق. العقلانيّة تجرّد البشر من كلّ الصفات النوعية، كاللّون والهوى والثقافة والجنس والمنشأ، وتوحّدهم بجوهرٍ واحد هو العقل. والمال يجرّد كلّ الأشياء من الصِّفات الجسديّة المحسوسة، ويعبّر عنها من خلال جوهر واحد هو القيمة.
العقلانية هي القاسم المشترك الأكبر بين الأفراد، والمال هو المُذوِّب الأقوى للأشياء، وكلاهما لامرئيّان. صعود العقلانية مهّد لصعود الرأسمالية، بالنسبة إلى زيمل. الكاتب الناشئ في أسرة أرستقراطيّة شديدة الثراء يذكر بأنّ الفقير، من موقعه، ربّما لا يستطيع أن يرى كيف يسوِّي المال بين الأشياء وينزع عنها صفاتها النوعيّة بقدرته الخارقة على الجلْب. ولكنّ الغنيّ، بإطلالته الشاملة على مشهد الأشياء، يرى الطاقة المذهلة للمال وهو يحوِّل أي اختلافٍ محسوس بين الأشياء إلى تفصيل صغير. كإشارة إلى التزاوج بين العقلانية والمال، يقتبس زيمل مقطعاً لماحاً من مؤرّخٍ إنكليزي: "لم تكن لندن يوماً قلب [وهنا إشارة إلى الوجدان] إنكلترا... بل هي عقلُها أحياناً، ومحفظتها دائماً". العقلانية والمال يتعاملان بموضوعيّة وحياديّة صارمتين مع الأفراد والأشياء، لذلك، فإنّ عدالتهما لا ترحم.
قِطَعُ المال تتعامل مع بعضها بوضوح قائم على عمليّات حسابيّة، لا اختلاف حولها، ولا مكان فيها للغموض والالتباس والتأويل والتعدّد. بل ثمّة خياران فقط أمام أيّ كمّيّتَيْن من قطع المال: إمّا متساوية أو مختلفة. تصبحُ العلاقات بين البشر في المدن الكبرى دقيقة تماماً مثل العلاقات بين قطع المال. الاتفاقات والصفقات يجب أن تكون واضحة وصارمة، ولا مجال للغموض والالتباس في العهود والمواثيق. يذكر زيمل مثالاً ساخراً: "في طفولتي، لم يكن أحدٌ يهتمّ بالوقت... الآن لدى كل برليني ساعة جيب". الساعة هي رمز تقديس الدقّة، فلا مجال للغموض في مواعيد القطار أو استحقاقات الدفع. يتخيّلُ سيناريو أنْ تنحرف كلّ الساعات في جيوب الناس باتجاهات مختلفة، والنتيجة ستكون حينها: الانهيار الشامل.
المال لا يبالي بالاختلافات النوعية بين الأشياء، والعقل لا يبالي بالاختلافات النوعية بين الأفراد. هنا، تنشأ أهمّ صفة لدى إنسان الحضارة الحديثة: اللامبالاة. اللامبالاة، أيضاً، آليةُ تكيُّف تخفّف من حساسيّة التقاط التغيُّرات النوعية بين البشر. اللامبالاة هي الخلاص الوحيد لإنسان المدينة، وهي موجودة في كلّ مكان؛ في الجامعة والشارع المزدحم والقطارات وكلّ أمكنة الاختلاط الإجباريّة مع الآخرين؛ حتّى الجار لم يعد يعرف جاره، وكأنّ التقارب المكاني بين أجساد البشر يؤدّي إلى التباعد الوجداني بين نفوسهم.
إنسان المدينة الكبيرة يعرف مدى عمق انغراس اللامبالاة لدى أقرانه. لذلك، تتولّد الرغبة بالتميّز والفرادة والاستثناء، الرغبة بكسر جليد اللامبالاة والنفاذ إلى وجدان الآخر. في مجتمع اللامبالاة، مجتمع العقلانية المدينية والاقتصاد النقدي، يشعر الإنسان بخطر الاختفاء والذوبان، ولا يوجد تطلّب على التميّز والتفرّد كما هو الحال اليوم. إنسان المدينة يعرف بأنّ عليه أن يفعل شيئاً خاصّاً حتّى يوقظ حساسيّة التقاط الاختلاف لدى هذا الركام البشري اللامبالي، والموضة عند زيمل ليست إلّا محاولةً من محاولات مقاومة التلاشي. وقد يؤدّي السعي إلى التفرّد، أحياناً، إلى الوقوع في المبالغة والإسراف، وهذه تقنية يسمّيها المفكّر الألماني بـ"الالتفاف حول وعي الآخر" لنيل اعترافه واحترامه. يبالغ إنسان المدينة الكبيرة في وجوده كي يكون مسموعاً في فوضاها، على الأقل لنفسه.
كانت الحدود بين الجماعات في برلين الصغيرة واضحةً، لأنّ الجماعات المُغلقة، التي تعتمد في تماسكها على الجانب الوجداني من النفس، واضحةُ الحدود. الحدود مع الآخر في التجمّعات الطائفيّة والتشكيلات الأسريّة والأهليّات الدينيّة واضحةٌ ومقرّرة سلفاً، الأمر الذي يحدّ من حرية الحركة ويعرقل التمايز النوعيّ بين الأفراد. ولكنْ مع تضخّم برلين وتقسيم العمل وازدياد عدد الأفراد وتعدّد الأفكار، خفّت قبضة الجماعات الوجدانية على أعضائها، وبدأت حدود الفصل بينها وبين الآخرين تزول، وزادت حرّيّة الحركة. لا تطلّبَ على التمايز والاختلاف في برلين الصغيرة، ولكنْ تبرزُ الحاجة إلى الفرادة والاستثنائيّة في برلين الكبيرة. وكأنّ تحلّل الروابط الاجتماعيّة العضوية لن يؤدّي إلّا إلى زيادة إلحاح التفرّد فيما يخصّ عناصرها الأوليّة. وكأنّ تضخم المجتمع كمّيّاً لن يؤدّي إلّا إلى ازدياد ضرورة تمايز الفرد نوعيّاً.
إذا ما قارنا التضخمُّ الكمي للمدينة مع التقدّم الثقافي للأفراد، سنجد فارقاً مرعباً. تقسيم العمل المتزايد، بل حتى التذرٌّر المستمرّ للعلوم الاجتماعية والفلسفة إلى تخصّصات، أدّى إلى إلغاء التنوّع في شخصية الفرد، وتنمية جانب واحدٍ فقط منها؛ جانب تتلاشي فيه كلّ جوانب شخصيّته الأخرى. يقف الفرد بصمت أمام هذه الروح الاجتماعية الشاملة المتبلورة في مباني المؤسسات الضخمة ومراكز الدولة المهيبة والتكنولوجيا الفائقة. روح موضوعيّة، لا شخصيّة، يشعر أمامها بالعزلة ولا جدوى المقاومة، وكأنّه "ذرّة من غبار"، كما يقول زيمل ــ وهذا أقسى انكسار أصاب الروح في تاريخها.
كان زيمل يبلغُ من العمر ستّين عاماً لمّا توفّي في مدينة ستراسبورغ، في أيلول/ سبتمبر عام 1918. آنذاك كانت ستراسبورغ مكاناً وديعاً يُشتهَر ببارات النبيذ والمأكولات المحلّيّة والعبق القديم لخشب البيوت الأثريّة. في رسالة كتبها من هناك، قبل موته، عبّر زيمل عن شوقه إلى برلين.
* كاتب من سورية