"بين الفينة والأخرى، كما لو تعلّق الأمر بنبوءةٍ صادقة، يقولون لي إنني قادرٌ على تغيير العالم وإنّ الحظ قريبٌ منّي جدّاً أو ربّما كان في داخلي. غير أنّني بلغتُ من العمر خمسة وعشرين عاماً، ولا زلت أعيش مع أبي وأُمّي. فقدَ أبي وظيفته في المختبر الذي عمِلَ فيه منذ تخرُّجه قبل ثلاثة عقود؛ أمّا أُمّي فقد قرّرَت البقاء في الكلية، بدايةً كطالبة دكتوراه، ولاحقاً كأستاذة الكيمياء غير العضوية. نحن الثلاثة نعيش في ثمانين متراً مربّعاً في ضواحي برشلونة"... بهذه المقدّمة يفتتح الكاتب الكتالوني جوردي نوبكا (Jordi Nopca، برشلونة 1983)، روايته الأخيرة "في الظل" (2019)، الصادرة عن دار Destino، والتي نال عليها "جائزة بروا" الكتالونية للرواية بوصفها "ممتعة ومشوّقة، لا سيّما وأنها تحاكي جيلاً كاملاً من الشباب في العقد الثالث من العمر يعيش في مدينة برشلونة اليوم".
من يحدثنا أعلاه هو بيري، شابٌ في الخامسة والعشرين من عمره في خضمّ عملية البحث عن طريقه ومستقبله، وهذا ما يثير سخرية شقيقه، جوان، الذي يتمتّع بحياة أوضح ويعمل أستاذَ مدرسة، مغادراً بذلك منزل العائلة. ضمن هذا السياق، إنها رواية شقيقين، بيري، الشخصيّة الحيويّة، والذي يبدو في الرواية بحاجة ماسّة إلى نوع من العناية والعاطفة، لا سيّما في علاقاته الغرامية، جامعاً في شخصه بين حالة المراهقة النموذجية لشاب في مثل عمره والميل الخفي إلى الإخلاص عندما يُفقد السبب أو لم تعد العلاقة ممكنة؛ وجوان، الأخ الأكبر، نظيره وتلك الشخصية المُهمِلة والحسودة، ولكن بنظرة لاذعة للواقع تكاد لا تخلو من التشاؤم.
يقع الشقيقان في غرام الفتيات نفسهن: لاورا، صحافية تعمل ككاتبة تجارية؛ وكيت، عازفة كمان في أوركسترا إنكليزية. بالتوازي وعلى هذا النهج، تسير قصّة الأخوين الكاتبَين، أحياناً مثل نهرَين، وأحياناً أُخرى مثل سيّارتَين في اتجاهين متضاربَين، لكنهما سيلتقيان في عدّة مناسبات، وبطريقة غير متوقّعة، على طول الرواية وكلها.
منافسة في الكتابة
لعل نقطة التلاقي الأكثر إشكاليّة بين الأخوَين ستكون الأدب، على اعتبار أنهما كاتبان أيضاً، لذلك ستكون المنافسة على المهنة الأدبية حاضرةً كذلك، حتّى على مستوى قراءة الرواية نفسها؛ فالجزء الأول من الرواية، والذي يحمل عنوان "ثاني أكسيد الكربون"، هو من تأليف بيري نفسه، وسينال عليه جائزة أدبية مرموقة. هنا تماماً ستظهر براعة نوبكا كروائي يكتب بقلم الأخ الأصغر بيري، مُبرزاً رشاقة نثره وتقلّبات شخصيته المراهقة. ولكن سرعان ما يتدخّل المؤلّف الحقيقي، نوبكا، متعاملاً مع النص من منظور عام: صيف، شقّة دون أبوين وانفصال عاطفي. يتعامل جوردي نوبكا مع كلّ هذه المعطيات التي تتداخل فيما بينها في الجزء الأول - بلسان بيري - بسحرٍ فريد. الأمر، إذاً، أشبه بلعبة، إنها ليست رواية، بل خدعة ينجذب القارئ لها بسهولة عندما يرى صورة جيل كامل تمرّ أمامه عبر شخصية بيري الذي يعيش مع والديه ويتوق للاستقلال.
فجأةً يحضر القارئ تغيير الراوي الذي يبدأ في مفاجأته، من زاوية أُخرى، وكأنهما واقعان متوازيان، إنه جوان، شقيقه الأكبر وأستاذ في مدرسة ابتدائية في بلدة على بعد نصف ساعة من برشلونة. لقد أصبح جوان بالفعل الراوي، هكذا سيبدأ بكتابة فصل ثانٍ مستقلّ، سارداً بعض الحلقات التي أخبرنا بها بيري من منظور آخر أو يبيّن ببساطة الدور الذي لعبه في تلك الأحداث. تبدأ القصّة في التعثُّر، ما فهمناه على أنه حقيقة واقعية من فم الأخ الأصغر لن يبدو كذلك في هذا الجزء، أو بالأحرى لن يكون شفّافاً بشكل كامل.
منعطف ثالث
غير أن الأمر لن يتوقَف هنا، فسرعان ما سيظهر منعطف ثالث لمسار الأحداث سيكون بدوره هو الجامع لهذه الروايات الثلاث التي تدور حول الحياة نفسها. هنا ستنفتح الرواية على كلّ شيء: المراجع الموسيقية والسينمائية والأدبية التي ستعمل كعلامات هوية مشتركة مع قارئ متواطئ، إضافة إلى رغبة الكاتب في إقحام كل شيء تقريباً، بدءاً بالسياسية، ومروراً بالأحكام الجمالية، ووصولاً إلى الحكايات، بهدف تقديم الشخصيات الثانوية. في ضوء هذا كلّه، سيجد القارئ نفسه في هذا الجزء مضطرّاً إلى التدخُّل بشكل أو بآخر كمفسّر للأحداث، وربما سيكون دوره أكثر من ذلك أيضاً، لا سيّما أنّنا في لحظة هامّة في السرد؛ حيث الموضوع لم يعد يتعلق بالأخوين، بل بفعل الكتابة نفسه. إننا في لحظة كشفية من السرد الروائي؛ حيث يتمّ الفصل بين الحقيقة وصلابتها، الواقع وقسواته، عدّة كيلومترات. هذا الأمر يثير، بدوره، المؤلّف، ويُغريه لمواصلة استغلال لعبة المرايا الفكرية هذه. مع هذا كلّه، فإنَّ الأمر لن يستمر كذلك، إذ سينجح نوبكا، سواء بلسان بيري في الجزء الأول، أو بلسان جوان في الثاني، أو بصوته هو، في الرواية الكاملة، بفتح مساحات ضيّقة للعاطفة. هكذا، بفصاحة مبالغ فيها، تنقشع الغيوم عن المشاعر النقية والبائسة، وصولاً إلى حدود رواية رومانسية حديثة متكيّفة مع أخلاقنا وأماكننا في هذا العالم.
دوّامة روائية
مما لا شك فيه أنّنا أمام دوّامة روائية متشابكة تروي قصّة شقيقين لهما أوجه تشابُه واختلاف؛ سواء من الناحية العاطفية أو المهنية. غير أن براعة جوردي تكمن في طريقة الحبكة المضحكة والذكية في آن معاً. الأخوان، متشابهان ومختلفان للغاية، يكتبان، والرواية تقودنا إلى قراءة ما كتباه. إنه نوع من الكتابة المشكالية؛ حيث يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، مكتشفين أنّ ليس لكل شيء ظلّه الخاص، من هنا كان عنوان الرواية.
"لقد كانت نيتي الأولى التركيز على شخصيّة واحدة في هذه الراوية - سرد قصة الأخ الصغير - لكن سرعان ما تحوّل الكتاب إلى حركة مزدوجة من التوسُّع والانكماش". بهذه الملاحظة يضع نوبكا نقطة النهاية على ثلاث روايات تسرد الحياة نفسها في الظل.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا