رواية "حكاية القرامطة" للكاتبة والمترجمة الفرنسيّة جوسلين اللَّعبي (1943)، تَطوي، بخفّة ومهارة، غمار التاريخ في متْن الحكاية، بما يتضمّنه من هوامش وصراعات أو تسويات. هذا ما يَخلص إليهِ قارئ الرواية الصادرة حديثاً بترجمة لحسن مُقْنِع عن "دار الجمل". الرواية توثيق ثريّ بالحكايات الإنسانيّة لحقبة من تاريخ الخلافة العبّاسية.
تبدأ الحكاية مع هروب طفلٍ من الأهوار إبّان ثورة الزنوج على الخلافة العبّاسية، حيث يلتقي مع ترجمانِ قائد الثوّار. يقصُّ الترجمان على الطفل حكاية ثورتهم التي استمرّت عشر سنوات؛ الثورة التي بدأت على الظلم، وانتهت إلى أن تكون ظالمة. الثورة التي بدأت ضدّ العبودية، وانتهت بأن صار للعبيد عبيدٌ آخرون. ينقل الزنجيّ إلى الطفل ــ إضافة إلى آلامهِ لوفاة قائده، وإشهار رأسهِ على الرمح، وفشل ثورة الزنوج من أجل العدالة ــ ذلك الحلم بالعيش في عالم يحترم الحقوق ويصفه بأنّه "عالم عادِل مؤجّل باستمرار". إذ كثيراً ما تعيد الثورات سيرة الطغيان.
تستمرّ حكاية الطفل الذي يسمّيه أبو سعيد الجنابي، "وَلد"، في بغداد التي يتوالى على حكمها المعتضد بالله، بعد الانقلاب على عمّه المعتمد. وفي تتالي فترات الحكم تَتَتالى فصول الحكاية وفصول الثورات. فيتابع القرامطة ما بدأه الزنوج، وتشترك الحركتان في السعي إلى العدالة الاجتماعية، عبر محاربة الفقر وتوزيع الثروات. وقد نجح القرامطة في إقامة نظام التملّك المشاع للثروة. وبالتالي القضاء على الفقر في المناطق التي سيطروا عليها. تمضي السنوات، يكبر "ولد"، ويشارك في معارك العالم الجديد الذي كان مرجوّاً، كما يغزو حبُّ رباب قلبَه. فيما يبقى أبو سعيد الجنابي متابعاً لهُ وحريصاً عليهِ، وقد تبنّاه منذ وجده ضائعاً في أزقّة بغداد. بقي أبو سعيد الجنابي يرى "ولد" طفلاً على الرغم من ظهور علامات الرجولة عليه، إلّا أنّ اختباره للحبّ، لا مشاركته في المعارك، كان معيار الرجولة في عُرف أبي سعيد الجنابي، فمعرفتنا للحبّ تعني اختبارنا للألم الذي يصقلنا، إلى جانب أنّ الحُبّ "أسوأ أنواع العبودية".
رواية تاريخية في قالب حكائي يُسائل الحب والسلطة ومآلهما
تتتالى تغيرات الحكم لدى العبّاسيين ولدى القرامطة بموازاة ذلك؛ يموت المعتضد، ويأخذ الحُكمَ المكتفي بالله، الذي يُفرج عن السجناء، ويَفرج عن أحوال رعاياه. كما تتوزّع حكاية القرامطة بين السَلَمية (سورية) والبحرين وبغداد والقطيف. تشهد حركتُهم انشقاقاتٍ، ويلتحق بهم أتباعٌ جدد من البدو والزنوج. تعرض الرواية معلوماتٍ تاريخية في قالب حكائي غنيّ بالقصص عن الحبّ والسلطة ومآلهما. يظهر "وَلد" حكيماً في النزاعات، فيما يوثّق أبو الفتح الأحداث التاريخية التي تعرفها الحركة، والأحداث التي اقتصرت على حوادث عابرة بالتعرّض للقوافل. تكبر حكاية القرامطة مع حكاية "وَلد".
تتداول الأيام، والأيام دوَل. تنتقل الحكاية بين حاضرة العبّاسيين وحاضرة القرامطة. في بغداد يموت المكتفي بالله، وتَسرد اللَّعبي تفاصيل استلام خليفة اليوم الواحد، فتعرض جوّ المؤامرات والتدخّلات في الحكم، وفي ذلك تعرض مصائر دائرة متنفّذة في الخلافة، لتنتهي الخلافة إلى جعفر الصغير. كما تنتقل الكاتبة بسلاسةٍ إلى مؤامرة أخرى تُعَدّ ضد القرامطة في حاضرتهم الإحساء، على يد طبيب شاب جاء من بغداد، ويقع على الفرق بين الإحساء وبغداد، حيثُ لا يوجد فقراء في مجتمع المساواة: الجميع يقتسمون الثروة. بالتالي: الجميع فقراء. تتنازع الطبيب أهواءُ الحبّ لرباب التي تغادر "ولد" وتميل إلى الطبيب البغدادي. يكتشف الطبيب أنّ مرافق الجنابي يدين بالإسلام. يغتال المرافقُ سَيّدَهُ، بعد تخطيطٍ ودفع من الطبيب الذي يهرب إلى الكرخ، وينتهي مقتولاً خلال الفوضى، عن طريق الخطأ، وهو ثَمِل، فيما تهرب رباب إلى دمشق.
في بغداد يزول خطر القرامطة، وينشأ خطر الحلّاج. ليبهت خطر الحلاج بدوره، بحضور خَطر الفاطميين القادم من أفريقيا بعدما أعلن عبيد الله، المُعلّم السابق للإسماعيلية في السَّلَمية، ولادةَ الخلافة الفاطمية في مصر. على هذا النحو يسود زمن الاضطرابات والفوضى، يَكثُر الوعّاظ، يتناوب رجالُ الحكم على الأمجاد، مِنْ قَادة جيوشٍ ووزراء. ويتبادل كلّ من الصديقين، أبي علي وأبي الفتح، الرسائلَ، حيثُ يتداولان أحوال بلديهما، وانشغالهما على مصير "ولد". تلتئم روابط الصداقة بين الرجلين خلال الفتَن والاقتتال. أمّا عن الشعب، فقد بقيت لديه سِمةٌ أكيدة، وهي الاصطفاف إلى جانب المنتصر، وفي سنة 910 فَقَدَ العبّاسيون السيطرة على الغرب الإسلامي.
تُسقط اللعبي حكايات الماضي على الحاضر بما فيها من دلالات
يقوم "ولدُ" بتعليم سليمانَ، وهو ابن أبي سعيد الجنابي. ينتظر قومه أن يكبر كي يستلم الزعامة بعد مقتل أبيه. تمضي سنوات هادئة، تقطعها حوادث الحلّاج الذي كان يدعو إلى إصلاح النظام الاجتماعي، وبذلك حمّلوه شبهة انتمائه إلى القرامطة. فيما الشعب اعتبره وليّاً من أولياء الله. وعندما بلغ سليمان السابعة عشرة من عمره، قاد جيشاً إلى البصرة، التي طاولها خرابٌ من غير أن يسودها العدل الموعود. مع عودة المعارك، عاد أبو الفتح إلى مدوّناتهِ كي يلحق بالتاريخ مجدّداً ويمسك خيوط أحداثهِ.
استمرّت تعدّيات سليمان، أبي الطاهر، على قوافل الحجّ، فيما المقتدر بالله غارق في نزواتهِ، يستدعي قائد جيوشه كي يواجه القرامطة، وحاشيته أيضاً التي طَاح بها التآمر على الخليفة. فيما كان أبو الفتح يتساءل عن ثنائية الكلمة والسيف، وهو تساؤل تحمله شخصيات كثيرة ما أنْ تعتمر الرواية بالقتل في زمن أبي الطاهر. لكنْ بقي أبو الفتح محايداً في تدوين أحداث زمانهِ، إذ كان يكتب عن انتصارات أبي الطاهر التي طاولت مسجد الكوفة وسواه من المقدّسات على أنّها نهب وتخريب. وقد بنى أبو الطاهر مدينة محصّنة عوض تلك المتقشّفة الزاهد أهلها؛ بنى قصراً، واستمرّ في معاركه مع الخلافة، إذ عادت الأهوار بعد سنوات من ثورة الزنوج كي تشهد معارك، ظاهرُها هو إصلاح النظام الاجتماعي، وجوهرُها عنفٌ مستطير، وإرهاب من غير هدف سِوى السلطة.
يصل جيش القرامطة إلى تخوم بغداد، وفي خلاء المعارك ينمو حبّ وردة لأبي الطاهر، التي عهدَ "ولد" بتعليمها مع أبي الطاهر في صغرهما. تقتحم المعارك وتبرز كي تقترب من القائد، وتكسب حبّه لها. يفشل هجوم القرامطة، لكنْ في الوقت نفسهِ يشهدُ حُكم المقتدر صراعات لا تتوقّف، يسلبه أخوه غير الشقيق، القاهر بالله، الحُكم، ويعود المقتدر مجدّداً. وفي مهبّ تلك الخلافات يعلن عبد الرحمن الثالث الخلافة الأمويّة من قرطبة.
توثّق الرواية، إذاً، حقبةً كان للإمبراطورية الإسلامية فيها ثلاثة خلفاء. وبالعودة إلى القرامطة، فقد تبدّل حُكمهم تبدّلاً جوهرياً في عهد أبي الطاهر، فحلّ القائد عوضَ المجلس، وحلّ حبُّه مكانَ العدالة. وصل الصَلَف بأبي طاهر حدَّ أنّه هاجم الكعبة، قتل الحُجَّاج، وسرق الحجر الأسود منها، مُعلناً نهاية الإسلام، وبدْء الإيمان الحقيقي والديانة الختاميّة. كما أعلن أنّ زكريا الأصفهاني هو المهديّ، وكان حرّره من سجن الكوفة، وجاءَ بتعليمات تُخالف العقل. كما بدت عودته عمليةَ ثأر للتاريخ يقودها الفرس ضدّ الخلافة العربية. لكنّ المهدي المزعوم أعلن عبادة النار، واعتبر سَفْح الدم جائزاً. لتبدأ نهاية ذلك العهد، بقتْل "وَلد"، الذي جاء من مستنقعات الأهوار طفلاً هارباً، وكان موته سبيلاً لفتح أعين الآخرين على الظلم. يَقتل أبو الطاهر زكريا، لكنّ الولاء له تغيّر، وانضمّ رجاله الأشدّاء إلى جيش الخلافة.
توثّق حقبةً كان للإمبراطورية الإسلامية فيها ثلاثة خلفاء
موت "ولد" هو الحدث الأبرز في حياة الشخصيات، إذ دفع مقتله بأبي فتح إلى الرحيل، ومعه مدوّنته التي كتبها لما يزيد عن ثلاثين سنة من تاريخ الحركة: بدءاً من حلم أبي سعيد المستحيل بالعالم العادل إلى الواقع الذي انتهى إليه على يد ابنهِ أبي طاهر. يتركُ أبو علي المخطوط لدى صديقه أبي الفتح في بغداد، ويقرّر أن ينسخه. ليكتسب حظّاً أكبر في عبور القرون. وحال أبي الطاهر ينتهي المقتدر جثّة مجهولة وهو يواجه جيش مؤنس الذي انشقّ عنه، وأعاد الحُكم إلى القاهر، الذي بدوره يُعزَل من حرّاسهِ، وتُفقأ عيناه، كي يتنازل عن الحكم لأخيه الراضي. فيما المؤنس المخصيّ، الذي دافع عن الخلافة لعقود، ينتهي في التسعين في مواجهة جبانة مع القاهر. وفي مصر توفيّ عبد الله الفاطمي الذي كان مِن هناك يجري وراء سرابٍ مشابه بالسلطة.
يبدو الصراع على السلطة صراعاً خالداً في الرواية، وخلال تلك الصراعات كلّها، لم يتوقّف المؤرخ عن التدوين. فيما كان العالم يدور من حولهِ في حلقات من القتل والدماء والتآمر، كان يَتَطلّع إلى انتهاء مهمّته التي انتهت إلى خمسة وثلاثين مجلّداً حُزمت بخيط من ألياف القنّب، وشكّلت مبرّر حياتهِ، التي انتهت مع انتهاء مهمّته. أمّا عن الروائية الفرنسيّة، اللَّعبي، فقد وجدت دورها بعد عبور القرون كي تُخرِج تلك الحكاية إلى الحاضر بما فيها من دلالاتٍ وإسقاط على واقع الأزمنة جميعها.
* روائي من سورية