يتجاوز عدد شهداء غزّة، الذين لم نرهم في البزّة العسكرية، والذين يتوزّعون عائلات ولاجئين ونازحين وأطفالاً وأمّهات وجدوداً، العشرة آلاف، ولا نزال في البداية، ولا نعرف كم سيتراكم على هذا العدد من أرقام جديدة، وكم سيتفاقم ويتصاعد، فالمقتلة هي بالدقائق أكثر منها بالساعات، فيما يبدو ألّا نهاية لهذه المجزرة في غزّة، كأنّها أفلتت من كلّ حساب، وصارت سيّالة دافقة.
نجد إلى جانب ذلك، وفي هامش لا يُعدّ بالقياس لها، عشرات الشهداء اللبنانيين. عشرات، فالرقم ليس صغيراً، وهو الآخر يتزايد وعلى طريقه فواجع، من جنس ما يحدث في غزّة. لكنّه ليس شيئاً تجاه الأرقام الفلكية والعاصفة لضحايا غزّة، والدمار الذي جعل المدينة كلّها ممسوحة، ملقاة أرضاً، عبارة عن ركام فوق ركام.
هكذا نفهم أنّ ستّين قتيلاً، على وجه التقريب، لا يكفون لتكون هناك معركة في لبنان، بل لا يكفون لحرب صغيرة على الأقل. فجأةً نبتت مقولة قواعد الاشتباك، التي لا يعرفُ أحدٌ حدودَها ودلالتها. لا يعرف أحدٌ المُقابل لها في الحركة والعدد. القتلى ينهمرون، من منطقة إلى أُخرى، ومن رواية إلى أُخرى، والعدد يتفاقم يوماً بيوم، وليس صغيراً بالقياس إلى معتاد هذه الاشتباكات، بل هو كبير بهذا المعنى. ستّون قتيلاً، والعدد في تزايُد، ولا يدّعي أحدٌ أنّنا في حرب. كم علينا أن نخسر لنخرج من قواعد الاشتباك هذه؟
ما الذي جعلنا نُبعد الحرب ونُبعد أنفسنا معها إلى الهامش؟
حين كانت المسألة لا تزيد عن قذيفة واحدة، أو ضحية واحدة، بل حتى حين لم يكن هناك قتال معلن، ولا قذائف على الإطلاق، كنا ننشد الحرب ونُعلنها، نتكلّم كأنّنا في حومتها. كنّا دائماً في حرب، بل هي وحدها كانت ولا تزال سبب وجودنا وغايته. نحن هنا لنقاتل وندافع ونهاجم. سلاحُنا في سبيل ذلك ولم يكن لولا ذلك، ولم نكن نحن إلّا له، فنحن في المقاومة في الميدان، ولو كان في أحيان مجازاً، ونحن في القتال، أو أنّنا دائماً على أبوابه، ولا يعني البعد إلّا أنّه منتظر وأكيد.
لولا ذلك لما كانت هناك حاجة إلينا، أو مبرّر لنكون، أو هدف لنا. الحرب هي، بعيدة أم قريبة، وما كان لنا هدف أو حاجة لولا ذلك. نحن في الحرب خاصّة لولا أنّها الحرب، ولولا أنها دائماً مثالنا ونصب أعيننا، ومبرّر حضورنا، وهدفنا الأسمى. ما الذي جعلنا نبعدها، ونبعد أنفسنا معها، إلى الهامش؟
ما الذي جعلنا، بعد أن قامت واستعرت، نُطمئن المعنيّين، ونلجأ إلى قواعد الاشتباك هذه؟ ما هي هذه القواعد مع ستّين قتيلاً، ومع سجال مستمرّ، سوى حرب غير مسمّاة، سوى حرب تزعم أنّها نصف حرب، سوى قتل لا اسم له. حرب بدون نشيدها، وبدون ملحميتها، وبدون نفيرها. حرب كهذه بكلّ شرور الحرب، بكلّ فظاعاتها وحتى تفاصيلها، لكن على سبيل التطمين، على سبيل التهدئة، وبدون التخلّي عن انتسابنا لها، نحن المحاربين الموجودين لنحارب أوّلاً نخوضها ولا نخوضها. إنّنا منذ البدء فيها، لكن بدون أن نكون تماماً، وبدون أن تكون هي تماماً. لا نعرف اسماً لما يجري، لكنّه الحرب وسواها، الحرب بدون أن تكون أكثر من سجال. هي الحرب لكنّها حربٌ أخرى، حرب ناقصة، نصف حرب، هامش حرب، أو حرب في الهامش.
لعلّ مصرع الفتيات الثلاث، تالين وريماس وليان، وجدّتهنّ على طريق عيناتا في جنوب لبنان، ردٌّ كامل على ذلك كلّه. لقد وقع هكذا أسوأ ما في الحرب، وقعت هكذا الحرب القصوى، نصف الحرب هذه انقلبت على نفسها. "إسرائيل" في الجنوب اللبناني ليست أقلّ سوءاً من "إسرائيل" غزّة. لقد جرى في الحرب الناقصة، حرب الهامش، أفظع ما في الحروب. صنعت "إسرائيل" في الجنوب اللبناني ما تصنعه تماماً في غزّة. الحرب هكذا كاملة والجنون الإسرائيلي تامّ وكامل. ماذا يمكن أن تكون نصف الحرب هذه سوى نزف لا يتوقّف في ما تستمرّ يومياً الجريمة الكاملة؟
* شاعر من لبنان