استمع إلى الملخص
- **أسرار المدينة والانكسارات الاجتماعية**: يعرض المسلسل انكسارات اقتصادية واجتماعية، مع تمرد الأبناء وشيخوخة الشام، مشيرًا إلى انغلاق الحياة باستثناء الانفتاح الاقتصادي.
- **الانتظار والتحذير من العشوائيات**: "الانتظار" كان تحذيرًا من واقع العشوائيات والقسوة، موضحًا انفصال الثنائي يوسف ونصير وتوثيقهما لأحلامنا قبل الحريق.
قليلون من جيلنا من يتذكّرون مسلسل "شجرة النارنج" (1989). قد نتذكّر مشاهد أو لقطات سريعة، ويتكفّل الخيال بما تبقّى ليُكمل الصورة. ولكنّ المسلسل يشغل جزءًا من ذاكرتنا، من ماضينا، مثل قريبٍ مسافر مرّ بنا مرّةً أو مرّتين والتصق بالذاكرة كما لو كان قد مرّ بالأمس. حالة غريبة، ولكن لعلّها أفضل تعبير عن صلة مسلسلات حسن سامي يوسف (1945 - 2024) بحياتنا. هو موجود، ولو لم نعرفه كفاية. يكفي أن يمرّ مرّة حتى يترك أثرًا كالوشم.
ثم جاءت التسعينيات وجاء مسلسل "نساء صغيرات" (1999)، متزامنًا مع مراهقتنا الفائرة؛ نرى سورية التسعينيات على خلفية قصّة حُبّ مستحيلة بين كاتب كهل وفتاة في العشرينيات. كان لحضور نورمان أسعد وجمالها الخلّاب السبب الأكبر الذي دفعنا إلى متابعة قصّة الحُبّ تلك، وكذلك عبد الهادي الصبّاغ في أحد أجمل أدواره. كنّا نُتابع نموّ الحب ثم انكساره، فننمو وننكسر، غافلين عن باقي الأحداث التي كانت تُوثّق انكسار الأحلام في التسعينيات التي كنّا نظنّها عقد الأحلام الجميلة، بينما كان حسن سامي يوسف ونجيب نصير يومئان إلى الشروخ التي ستهدم الأحلام على رؤوسنا قريبًا، أكانت خيبات حُبّ أو خيبات بلاد أو خيبات عائلة تتفكّك أمامنا، ونحن نظنّ واهمين أنّنا في منجى.
تلاه "أسرار المدينة" (2000) حين بتنا أكبر قليلًا فأدركنا معنى الانكسارات التي ستترك شروخها في القلب والروح قريبًا. أدركنا معنى الطبقات الاقتصادية وبداية تخلخلها الواضح قبل أن تفترق وتتّسع الهوّة. كنّا نتابع قصّة شاب وقصّة حُبّ كما ظننّا، غير أنّ العقل بدأ يربط ما كان عاجزًا عن ربطه من قبل. انكسار الآباء، تمرّد الأبناء، صدوع صور العائلة، أسى الشوارع، شيخوخة الشام التي كنّا نحلم بها ونراها شابّة أبدًا لا تشيخ، لكنّ أُولى سنوات الألفية لطمتنا بادّعاءات الرئيس الشاب، وبانغلاق جميع مظاهر الحياة باستثناء انفتاح اقتصادي أوصد معظم أبواب الأمل، فكان الحريق.
يكفي أن يمرّ مرّةً واحدة حتى يترك أثراً كالوشم
كنّا نهدهد ما تبقّى من آمالنا، ونحن نستعد للدخول في الجامعات، محاولين إنكار أنّ ما يحدث أمامنا سيحدث لنا، فجاءت الصفعة في "أيامنا الحلوة" (2003)، لتوقظنا من سباتنا اللذيذ. لا، أنتم لا تعرفون الشام، ولا تعرفون البلاد. ليست الشام شام شوارع باب توما، والحمرا، والصالحية. أزيلوا الغشاوة عن أعينكم وادخلوا الشوارع الجانبية كي تروا المدينة الحقيقية، كي تتعرّفوا إلى الكلمة التي ستُعرِّف الزمن القادم برمّته: "العشوائيات"، حيث يعيش الهامش وأناسه، حيث يتضاعف هذا الهامش ويتضخّم ويزداد أناسه الذين بدأوا ينزلقون من طبقتهم الوسطى، إلى أن بدأ يهدّد بقضم المدينة بأسرها.
ثمّة كثيرون صُدِموا حين رأوا الأزقّة الكالحة القذرة التي تدور فيها الأحداث، قبل أن نكتشف لاحقًا أنّ الرقابة ما كانت ستسمح بتصوير المسلسل إلّا بعد "تجميل" تلك المناطق. إنْ كانت العشوائيات هذه مجمَّلة، فما وجهها الفعلي؟ يبوح لنا مُخرج العمل هشام شربتجي بأنّها مساحات شديدة الضيق مثل قبور لا تُتيح للكاميرا أن تدور، فكيف بأرواح من يعيشون هناك؟ ما الكابوس الذي ينتظرنا؟
كان الردّ في مسلسل "الانتظار" (2006)، الذي أظنّه أفضل مسلسل للثنائيّ حسن سامي يوسف ونجيب نصير، ولمُخرجه الليث حجّو، بل لعلّه أفضل مسلسل اجتماعي سوري. أهلًا وسهلًا بكم في العشوائيات التي ستلتهم كلّ شيء؛ أهلًا بكم في دنيا الضيق والقسوة والبطش؛ أهلًا بكم في غرف الأسرار التي يكبر فيها جيل سيتمرّد بعد بضع سنوات؛ أهلًا بكم في حكاية لا أبطال فيها، لأنّ دنيا الحكاية تلك لا تسمح بوجود أبطال، وإنْ اختار الناس بطلًا شعبيًا يشبهونه ويشبههم، فقد حكموا عليه - مِن دون أن يدركوا - بالموت. وأهلًا بكم في العالم الذي يُقتَل فيه البشر من أجل حفنة نقود، ومن أجل تعدٍّ على مترين من الأرض، ومن أجل لا شيء، لا شيء لأنّ الجميع مخنوقون مكبوتون مُذلُّون مُهانون، بينما شوارع المدينة الأخرى تتبجّح بتضاعف عدد السيارات، وحفلات السمر، وليالي السهر والجنس.
كان "الانتظار" جرس الإنذار قبل الحريق، ولكنّنا فصلنا أنفسنا عنه، فما هو إلّا مسلسل لعلّ صانعيه بالغوا بعض الشيء. نحن في ألفينات التطوير والتحديث، سنوات الرخاء، أيام افتتاح جامعات جديدة، ليالي مشاوير المشي الجميلة. ولكنّ يوسف ونصير كانا يريان ما نُنكِر رؤيته، ويسمعان ما نُغلق آذاننا عنه، ويدركان ما غفلنا عنه في لهوجتنا اليومية. كلّ هذا سيحترق، كلّ هذا سيُقتَل، كلّ هذا سيموت، ولا نجاة لأحد.
كان مسلسل "الانتظار" بمثابة جرس إنذار قبل الحريق
ما من سيناريوهات تلفزيونية سورية نافست سيناريوهات هذا الثنائي إلى اليوم، بل إنّ انفصالهما أكّد المؤكَّد حين أخفقت المسلسلات التي عمل عليها كلٌّ منهما منفردًا. غادر نجيب نصير إلى السيناريوهات الخفيفة فرارًا من جحيم البلاد، بينما حاول يوسف تدوين السنوات اللاحقة فأخفق لأنّه بات ينظر الآن بعين واحدة فاختلّت الصورة. يدين يوسف لنصير بخبرته الرهيفة في التقاط نبض الناس المهمَّشين، ويدين نصير ليوسف ببراعة الكلمة والصورة والمشهد. وكأنّ هذا الثنائيّ الذي وثّقَ أحلامنا قبل الحريق، احترق بلظى النار أيضًا وأصابته اللعنة التي كان يُحذّرنا من قدومها.
لمسلسلات يوسف اللاحقة: "الغفران" و"الندم" على الأخص، جمهور كبير من شريحة الشباب، غير أنّ تلك المسلسلات كانت ناقصة، كانت تبدو وكأنّها تدور في كوكب موازٍ فيه بلد اسمه سورية، وأناس سوريّون يعيشون في طبقة وسطى تلاشت في عالمنا هذا وبقيت في ذلك العالم الموازي المغري. نقل يوسف الانكسار من حوارات العشوائيات إلى مشاهد الحزن، وإلى هموم أبطاله المرفَّهين، الذين ينحصر همّهم في الحُبّ وفي الكتابة، وكأنّنا في سنوات التسعينيات. وكأنّ يوسف علق هناك ولم يخرج، وقد غفل عمّا كان يحذّرنا من إغفاله.
ربّما كان يُفرِغ انكساراته الفعلية في الرواية التي بدأ ينشط في كتابتها ونشرها مع سنوات الألفية، إلّا أنّ الروايات حملت فردانيّة الكهل (ومن ثمّ الشيخ) الذي يوثِّق انكسارات قد تتوازى وقد تتقاطع مع انكسارات الواقع الفعلية وقد لا تتقاطع. ربّما كان لرواياته الجديدة أن تبدو أبهى لو نُشرت في زمن آخر، وربّما كان لـ"ندمه" و"غفرانه" أن يتألّقا أكثر لو كتبهما قبل عشرين عامًا. ولكنّ الزمن لا يرحم.
لن نتذكّر عروة وأمجد إلّا في أنّهما ما نتوق لأن نكون ربّما، بينما نحن سهيل؛ بل نحن تلك الشخصيات المنسية في "الانتظار"، بانكساراتهم، وضحكاتهم المشروخة، وانحناء ظهورهم، وزعيقهم الذي لا يملكون سلاحًا غيره في "زمن العار"، وخيباتهم المتلاحقة في "الوطن" وفي المنافي. وطنهم، مثل وطننا، عشوائيات تحترق شيئًا فشيئًا قبل أن تُحرق الجميع؛ تُحرقهم وهم لا يزالون على انتظارهم المديد الذي لا يعرفون نهاية له، وربما لا نهاية له.
* كاتب ومترجم من سورية