حياتي وحياة كلّ سوري

27 ديسمبر 2024
صور مفقودين في "ساحة المرجة" بدمشق، 25 كانون الأوّل/ ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- استيقظت الكاتبة على خبر هروب بشار الأسد، مما أثار مشاعر متداخلة من الفرح والصدمة، ووصفت لحظتها كاستيقاظ من حرب طويلة.
- تعبر الكاتبة عن رغبتها العميقة في العودة إلى سوريا، مشيرة إلى الحنين لعتبة بيت أهلها التي ترمز للأمان والانتماء، وتستذكر سنوات الألم والحرمان.
- تختتم بتأملاتها حول الأمل في مستقبل سوريا بعد زوال النظام، معبرة عن إيمانها بالتغيير السلمي وحقها في الحلم بالعودة والعيش بحرية وسلام.

عند السابعة والنصف من صباح الأحد، الثامن من الشهر الجاري، تلبّستني سوريّتي التي عشتُها على مدى أربعين عاماً في لحظة، حين أيقظني زوجي على غير عادته في أيام العطل، قائلاً: "قومي.. بشار هرب". لحظة استثنائية في حياتي وحياة كلّ سوري، كنتُ مؤخّراً أرى كلّ شيء يتغيّر بتسارعٍ هذياني لنصل إليها.

نهضت بتثاقل وعدم صحو كمثل من أيقظوها وأبلغوها للتو أنّ الحرب الدائرة في الخارج منذ سنوات طويلة توقّفت، وبات بإمكانها الخروج لتفرح بالطريقة التي تريدها، لكنّي اكتفيت بالنهوض والجلوس متجمّدة الملامح، ناظرةً إلى الشاشة التي كانت تبثُّ زغاريد ممتزجة بأصوات تكبير بالتزامن مع شروق شمس يوم سوري لا يتكرّر.

بقيتُ على هذه الحال من الجمود لساعتين، لم أكن قادرة على الحركة أو النطق أو حتى التفكير، لكنّي أخيراً استنهضت نفسي واستعدت صحوي وقرّرت أنّه حان وقت الصراخ، حان وقت القفز، حان وقت الغناء، حان وقت النحيب والضحك والفرح والحمد وللأسف الشتائم واللعنات التي لم أكن قادرة على لجم لساني عن النطق بها. اعترتني تلك المشاعر المتداخلة التي اعترت معظم السوريّين، لكنّ عبارة واحدة راحت تتردّد في رأسي: ضاع عمري، ضاع عمري.

في الوقت الذي شعرت فيه بطاقة ضاغطة انسحبت منّي لتُفسح مجالاً للهواء كي يمرّ إلى رئتي بحريّة، شعرتُ أيضاً أنّني هرمت. رأيتُ للمرّة الأولى تجاعيد عيني فيما أبكي أمام المرآة، استحضرت الكثير من صور ما مرّ بي خلال سنوات غيابي عن سورية، ذاكرة سنوات طوالٍ من الألم والفقد والحرمان والقلق والحنين والخوف.

عدت إلى ما قبل 2011 واستعرَضَت ذاكرتي لوحات لا حصر لها عن اصطدامات بجدران تقييد الحرّيات، وعناصر الأمن المتجسّدين في العديد من الأشخاص الذين ألتقيهم يومياً، بدءاً من بائع الشاي في كافتيريا الجامعة الذي سألني بوقاحة يوم انتخابات مجلس الشعب: "أين الحبر على بصمتك؟"، وانتهاءً ببعض الأساتذة من الذين كانوا يضيقون الأسئلة عليّ عند اختياري للموضوعات التي أرغب بالبحث فيها خشية انحرافي إلى موضوعات يسمّونها شائكة، لكنّها لم تكن تخز سوى ضيق أفقهم وجبنهم.

رغبت أن أطير في الحال إلى سورية لأنّها من دون الأسد

رغبت أن أطير في الحال إلى سورية لأنّها الآن، حسبما سمعت من المذيع، "من دون بشّار الأسد". جملةٌ تطرب لها الآذان وتنفرج لسماعها الأفواه عن ابتسامات عريضة، وتذرف العيون دموع سعادة يستحيل ألّا تمتزج بالحسرة، فقد ضاع عمرنا. 

أكثر من عشر سنين وأنا بعيدة عن عتبة بيت أهلي، لم أحنّ إلى شيء في غربتي الطويلة أكثر من حنيني إليها، فعتبة البيت تعني الوصول إليه ودخوله وعناق من هُم خلف بابه. العتبة تعني أبي وأمّي وأختي وولديها، فعندها سيقفون بانتظاري واحتضاني بعد غياب لم يتوقّعوه، لكنّي كنتُ على يقين أنّه سيطول بطول الظلم الذي عاشته البلاد.

لا أريد أن أثرثر وأدخل في دوّامة التنظير، أحاول فقط أرشفة اللحظة التي ما زلتُ من أجلها مشغولة باللهج بحمد إلهيٍّ، لحظة صهرتنا نحن السوريّين المترامين في أصقاع الأرض في بوتقة واحدة من الفرح وغيره من المشاعر المتداخلة. أدرك ألّا معجزات في السياسة، لكنّي لا أستطيع أن أغمض عيني عن يد الله التي شعرتُ بها تُحرّك الأحداث لتُنهي أخيراً مأساة شعب.

في هذه اللحظة لا أملك سوى أن أتوق إلى العودة لأدخل سورية بعد أن خلت من أصنام آلهة الشرّ وصور المجرمين. أتوق إلى العودة لأمشي بخطوات خفيفة دون أن أخشى من حقد فُخّخ به الأسفلت، أنا العارفة أنّه في هذه اللحظة تحديداً ربّما كلّ ما في تلك الأرض مفخّخ بالحقد، وليس الأسفلت فقط، وأنّ مئات الأمّهات يقبعن في بيوتهنّ خائفات على أولادهن من جنون الانتقام.

لكنّي أؤمن أنّ من قدر على تحرير البلاد من دون نقطة دماء قادر على أن يكمل معنا ويحقّق الحدّ المرجو من كرامة الإنسان. ذلك الذي علّمني ألّا أدعو أحداً غيره بـ "سيّد"، وأنّه إن حرّرني فبالحقيقة أنا حرّة. نعم لطالما استمددت حرّيتي من إلهي سيّدي وملكي، لكن من حقّي أن أحلم بالعودة إلى أرضي لأقبّلها وأصطحب ولديّ لنشرب الشاي في الكافتيريا التي تعرّفت فيها على والدهما من دون أن يكون البائع عنصراً عُيِّن للتلصّص على فرحنا، وجلس يحصي ضحكاتنا ويدوّن ما قرأه على وجوهنا من إيماءات.

من حقّي أن أكتب وأنشر في بلدي ما يوحيه لي فكري من دون أن أنتظر رأي أحد الجبناء الجهلة. ربّما لا يزال الوقت مبكّراً جدّاً لنحكي عن أحلامنا، فالواقع أشدّ تعقيداً من براءة الحلم وطيب النوايا.


* كاتبة من سورية مقيمة في الإمارات

المساهمون