يقول ديفيد ديتش، في كتابه "الأدب والمجتمع"، إنّ العلاقة بين الأدب والمجتمع كانت "مشكلة" ولا تزال كذلك، وليست مجرّد مجادلة أكاديمية: الكاتب والجمهور، والأدب والقيَم الاجتماعية، وموقف مختلف طبقات المجتمع من شتّى أنواع الكتابة، وطبيعة الموضوعية الأدبية ومداها الممكن... كلّ هذه المسائل لا تزال بلا حلّ، أي أنّها موضوعات للصراع بين البشر.
والدليل على أنّها مشكلة هو أنّ معظم الكتّاب والنقّاد الفلاسفة والسياسيّين في التاريخ قد قدّموا مطالعاتهم بشأنها، إمّا إنكاراً أو تأييداً ومناصرة. وعلى هامش الجدال بشأن هذه العلاقة، نشأت مدارس النقد والأدب، وربما يمكن اعتبار هذا الكِتاب إحدى المحاولات التي يبذلها النقّاد لإثبات أنّ الأدب كان استجابة للمتغيّرات الاجتماعية، وأنّ تأثيره يجري من خلال تلك الاستجابة وحسب.
والطريف في أمر هذه العلاقة هو أنّ معظم - إن لم يكن جميع - الروائيّين والشعراء والفنّانين يقفون في الجانب الذي يعتبر أنّ الأولوية للفن، أي الفن المتعلّق بالنوع الأدبي الذي يبدعون من خلاله، دون أن يمسّ هذا الاهتمام، أو هذه الأولوية، جوهر أي قضية يؤمن بها الكاتب أو المجتمع، أو دون أن تكون لديهم مساعٍ للتملّص من المهام الإنسانية والأخلاقية. وإن النقّاد والمنظّرين والسياسيّين والمجتمع بعامّة، هُم في الجانب الذي يضع شروطاً للفنّ دون أن يكون كثير منهم على دراية بالطبيعة الحقيقية لتجربة الإبداع الفنّي.
رسالة الكاتب الفنّية الحقّة هي بثّ الحياة من خلال الكلمة
أذكر أنّ تغييراً حقيقياً طرأ على منطق الجدال بهذا الشأن، في الثقافة السورية، بعد نشر الطبعة الأولى من رواية ماركيز "مائة عام من العزلة" وقد اختار المترجمان، سامي وإنعام الجندي، أن يكتبا مقدّمة تعريفية بالكاتب الذي كان شبه مجهول في ثقافتنا، وفيها يوردان قوله: "إنّي أعتقد أنّ كتابة أدب سيّئ تعرقل مسيرة العملية التاريخية نحو الاشتراكية". كانت الاشتراكية لا تزال حيّة، وكانت الآمال بها وباستمرارها وانتصارها حيّة أيضاً، لكن الاشتراكية ودعاتها كانوا هم الذين يصرّون على كتابة أدب وظيفيّ أوّلاً، وهم الذين كانوا يدينون أي شكل من أشكال الانشغال بقضايا الفن وأشكال الكتابة، بل إنّ كلمة "الشكل" وأنصارها، أو المتحدّثين بشأنها، نفسها كانت مكروهة ومستبعدة وموضوعة تحت التهديد بالفصل من الجماعة.
واللافت أنّ كلام ماركيز لم يكن جديداً، بل يمكن القول إنّ الرجل قد استعاره من كتّاب لا يدّعون أنهم في صفّ الاشتراكية، إذ كان مارسيل بروست نفسه قد قال، ذات يوم، إنّ الفنّان لا يستطيع أن يخدم وطنه إلّا بأن يكون فناناً، بينما كتب توماس مان في مقالة له بعنوان "الفنان والمجتمع": "إنّ الفنّان يشعر بضآلته إزاء الشكل الفني، أمّا الناقد فهو يتصرّف وكأنه حكمٌ وخبير بهذا الفن".
لا يبحث ديفيد ديتش في الفنّ، بل في الوظيفة التي يجب أن ينهض بها الأدب، ولكن توماس مان يجيب: "إنّ الكاتب لا يستطيع إصلاح العالم إلّا بوسائله الخاصّة، أي بأن يمنح الحياة شكلاً ومضموناً يجعلانها شفّافة تسمح برؤية "حياة الحياة" - وهي استعارة من غوته - إذ إنّ رسالة الكاتب الفنّية الحقّة هي بثّ الحياة من خلال الكلمة".
* روائي من سورية