انتظر يورغن هابرماس، الفيلسوف الألماني الأشهر حالياً في ألمانيا، وسليل مدرسة فرانكفورت الألمانية، أكثر من شهر ليُدلي مع رفاقه نيكولا ديتلهوف وكلاوس غونتر ورينر فورست، في بيان مشترك، برأي في الحرب على غزّة. هذا الانتظار، الذي طال كلّ ذلك الوقت، يلقي ضباباً والتباساً على الموقف كلّه.
بيان هابرماس ورفاقه لا يعير بالاً للوقت الذي مضى على حرب غزّة. إنّه يقفز على ما جرى منذ ذلك الحين، بل هو يتفادى رؤيته والتحقيق فيه ومحاكمته من قرب، رغم أنه يتتابع يوماً بعد يوم، بالمنهج ذاته والمسار نفسه، ويستتبع مراجعة مديدة ومحاكمة يومية.
ويكاد بيان هابرماس ورفاقه يغفل كل ذلك، ليتشبّث بالبقاء في اليوم الأوّل من الحرب، أي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل الذي أغارت فيه حماس على مستوطنات ومواقع غلاف غزّة. يبقى هابرماس ورفاقه عند هذه البداية، بل عند اليوم الأوّل، ولا يعنيه في شيء أن يُلقي نظرة على ما يسمّيه "انتقام إسرائيل وهجومها المضاد". لا يُلقي نظرة على المذبحة اليومية التي أفضت، حين بيانه، إلى ما يزيد عن 13 ألف شهيد، وإلى مشهد عامّ لغزة، تكاد كلّها فيه أن تكون قد سقطت على الأرض واستحالت ركاماً.
يُلقي الغرب ذنْبه على عاتق شعب آخر، هو ساميٌّ أيضاً
ما جرى طوال الأسابيع التي سبقت البيان لا يتعامل معه هابرماس، بوصفه واقعاً يومياً، بوصفه جبلاً من الأحداث، جبلاً من الانتهاكات الصريحة والمباشرة لكلّ ما نسمّيه قانوناً وحقوقاً وإنسانية. هذا الواقع الذي ما أن رآه العالم وعاينه في الصور الحيّة والمباشرة، حتى انقلب على انطباعه الأوّل، على ما تردّد مِن السابع من أكتوبر، وعلى ردوده الأُولى والمباشرة.
ما سمّاه بيان هابرماس، بدون أي تحقيق أو تمحيص، "انتقام إسرائيل وهجومها المضاد"، هو ما رآه العالم، وعاينه يوماً بعد يوم، من سفك وتدمير بأحجام خرافية، وأعداد فوق التصوُّر، وما صدمه من مَشاهد تدمير وإسقاط مُدن بكاملها، وتسويتها بالأرض.
ما رآه العالم كان عنفاً، لم يعُد مبرَّراً اعتباره مجرّد رد، والبقاء عند باعثه وبدايته الوحيدة. لم يعُد ممكناً أن تبقى الرواية عند السبب الأوّل، فما جرى يفوق في هوله ووحشيته هذا السبب، ولا يطغى فقط عليه، بل يجعله خلفه بالكامل، ويتجاوزه بكثير. الأمر يدعو إلى مراجعة تاريخ الاحتلال منذ 1948، وهو تاريخ من الاستيطان والعسف والخروج على القوانين والقرارات الأممية.
ما جرى دعا كثيرين، غوتيريس من بينهم، إلى عدم الوقوف عند السابع من أكتوبر، والرجوع إلى سياسة مستطيلة خلفه، أي إنّ إسرائيل، في انتقامها، لم تقف هي الأخرى عند السابع من أكتوبر. ما جرى، ولا تزال ممعنة فيه، أكبر بكثير من الردّ على حماس والسابع من أكتوبر. إنّه سياسة عريقة مترامية في الاعتداء على الفلسطينيين قاطبة، الفلسطينيين في حماس وغيرها، حماس وخصومها.
ما العدد اللازم من القتلى لتكون هذه حرب إبادة؟
تدمير غزّة. بدون الوقوف عند أي حادث أو تاريخ، ليس سوى سياسة تكاد تُغطّي قرناً بكامله، تمارس بالشدة ذاتها، على الفلسطينيين وفلسطين. سياسة كهذه على شعب بكامله، شعب سامي هو الآخر. ما كانت لتستعيد ما أعاد بيان هابرماس تسميته بـ"معاداة السامية". لا داعي للقول إنّ مصطلحاً كهذا، لا مكان له في كلّ ما جرى منذ السابع من أكتوبر، ولا مكان له إلّا في الغرب.
ما جرى في غزّة ليس من الغرب ولا في الغرب، ما جرى في غزّة قد يدعو الغرب إلى مساءلة أُخرى، هي إلقاؤه هذا الذنب الغربي على عاتق شعب آخر، هو، يا للمصادفة، سامي أيضاً.
إذا كان هابرماس قد انتقد، في يوم اجتياح أميركا العراق، فكيف يتسنّى له أن يُوقّع بياناً يدعم اجتياحاً هائلاً آخر، اجتياح إسرائيل غزّة، وكيف يمكن أن يغفَل عن أسابيع من القتل، ألّا يُعير بالاً لسفك يومي، وأن يكتفي، في موضع من بيانه، باعتبار عدم التناسب في القوّة بين إسرائيل وحماس، و"سقوط ضحايا مدنيّين" مجرّد مبادئ توجيهية، لا يصحّ اعتبارها حرب إبادة. ما العدد اللازم من القتلى لتكون هذه حرب إبادة؟ ماذا بعد تدمير غزّة وسقوطها أرضاً؟ لقد صرنا في ثلاثين ألفاً، وربما أكثر من القتلى، كم علينا أن نخسر ليكون الأمر كذلك؟
لا يُبالي هابرماس في تسمية مسلمي ألمانيا مجرّد قاطنين، أليس هذا وجه نبذ وإخراجاً لهم من ألمانيتهم؟ ماذا ندعو ذلك؟ أليس نوعاً آخر من اللاسامية؟
سبق لهابرماس أن ردّ نازية هايدغر، لا إلى موقف سياسي، بقدر ما هو في نظريته عند اللغة، التي تعتبر الألمانية وقبلها اليونانية، وحدهما قادرتين على إنتاج الفلسفة، والسؤال الآن: أين هي ألمانية هايدغر؟
إذا عدنا إلى بيان هابرماس ورفقته، نجد أنّه لا يختلف عن تصريحات الزعماء الغربيّين، وبايدن بوجه خاصّ. هؤلاء يقدّمون الدبلوماسية على غيرها، فهل هابرماس الفيلسوف هو الآن كذلك؟ هل نحن أمام دبلوماسية الفيلسوف؟
النقطة التي لا يتطرّق إليها بيان هابرماس، والأرجح أنّ ذلك متعمَّد، هي التهجير، بما يعني ذلك من طرد شعب من أرضه للمرّة الثانية. لا يقول البيان شيئاً عن ذلك. البيان يبقى عند بداية تجاوزها الزمن، تناسٍ، هو الآخر، يصبح مع الوقت، بعيداً وملبساً للغاية، بل قد يكون واحدة من خرافات البيان.
* شاعر وروائي من لبنان