تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يُصادف اليوم 31 كانون الثاني/ يناير، ذكرى ميلاد الروائي المصري خيري شلبي (1938 - 2011).
وُصِف الروائي المصري خيري شلبي (1938 - 2011)، الذي تحلّ، اليوم الثلاثاء، ذكرى ميلاده بأنَّه كاتب المهمّشين، وقيل إنَّه رائد الواقعيّة السحرية في الأدب العربي. وقد كتب كثيراً عن الريف المصري، حتَّى شاعت مقولة نجيب محفوظ (1911 - 2006) عنه؛ "كيف أكتب عن القرية وخيري شلبي بيننا". وذلك عقب فوز محفوظ بـ"جائزة نوبل 1988"، وكأنّهما اقتسما الجغرافية المصرية.
والشائع أنَّ شلبي "شيخ الحكائين". وأدبه أحد مفاتيح الشخصيّة المصريّة بحسب الروائي جمال الغيطاني (1945 - 2015). وهذه الألقاب جميعُها محاكاة لأدبهِ، فأدبه احتفاءٌ فلكلوري بالحقيقة الإنسانيّة، إذ تظهر حقيقة الإنسان في سردٍ أشبه بالطقس الذي تحضرُ فيه قوى عديدة، لا قوى الواقع فحسب، بل قوّة الأعجوبة.
كان حلم خيري شلبي الكتابة المسرحية، وكان لديه أمنية بأن يكون مُطرباً بسبب نشأته في منزل مليء بالأسطوانات وفيه جهاز غرامافون وسط بيئة مُعدمة، وقد حاول كتابة الشعر في يفاعته. لكنه انتهى إلى ما يزيد عن سبعين كتاباً في الرواية والقصة والتحقيق الصحافي والدراسات الأدبية، ولديه ما يقارب ألف تمثيلية في إذاعة "صوت العرب"، وله في فنّ البورتريه الذي أعاد إحياءه ما يزيد عن مئتين وخمسين شخصية.
عالم روائي بعيد عن كتّاب البرجوازية وتعاليهم الطبقي
ويرى صاحب هذه التجربة الكبيرة أنّه تخرج أسلوبياً في أربع مدارس وهي: إبراهيم عبد القادر المازني (1889 - 1949)، ويحيى حقي (1905 - 1992)، وعبد الرحمن الشرقاوي (1921 - 1987)، ويوسف إدريس (1927 - 1991)، وقد ساعده هؤلاء على التصالح مع العامية المصرية ومع عالم القرية. لكن بالنسبة إلى شلبي، فقد نشأ في منزلةٍ بين منزلتين، وكان جدّه من الأعيان، فيما نشأ هو في بيئة فقيرة مُحاطاً برموز ملَكية من زمن سابق. ما منحهُ منذ البداية موقعاً مثالياً لراوٍ يقف على الأطلال، وينظر إلى العالم من زاوية منسية. هكذا، منحه وضع أسرته الاجتماعي الاقتصادي موقعه في الخريطة السردية المصرية، فكتب عن الريف قريباً من الريفيين، كتب كواحدٍ منهم؛ بل هو واحد منهم. كتابتُه بعيدة عن تعالي كُتّابٍ جعلهم انتماؤهم للبرجوازية المصرية "مترفّعين" عن موضوعِ الريف.
وقبل المدارس الأسلوبية الأربعة كان لتوفيق الحكيم (1898 - 1987)، خاصّة في "يوميات نائب في الأرياف" (1937)، الدور في أن يلهم شلبي بأنَّ بطل الحكاية يمكن أن يكون إنساناً عادياً يعيش في جواره في عالم القرية. وفي النهاية فإنّ قراءة نجيب محفوظ هي ما منحت شلبي تلك الهبة التي يمنحها الخيال للواقع، عبر صنع تآلف متخيّل وجديد منه، وتلك الهبة هي ما تجعل من واقعٍ ما؛ فنّاً.
لا يجد من يقرأ خيري شلبي الحياةَ العادية المجرّدة، وإنّما يرى غناها. صحيح أنَّ في رواياته الكثير من الواقع، لكن في سرده جوانب كثيرة من الموروث الذي تتداخل فيه الغيبيّات والعجائب. ما ينزع عن حكايته عاديتها. فالحكاية التي يكتبها شلبي فيها من القوَّة أنّها تقف وراء الواقع، تؤسّس له وتسبقه. يتآلف فيها حاضر الشخصية مع إرثها، لا ماضيها الخاص، وإنّما الماضي البعيد لمكانها. لا؛ بل ليس الماضي وحسب، وإنّما عبر قراءة علاماتٍ غالباً ما تكون تغيّراً في السلوك الاجتماعي والاقتصادي للشخصيات التي يحكي عنها، وكأنّما يستقرأ مستقبل المكان والتغيّرات التي قد يأتي بها الزمن.
وشلبي بهذه الصورة - لربما بحُكم شقائه في عدد كبير من المهن - مِنَ الكُتّاب الذين كُشِفَ عليهم الزمن بقوة الموهبة والتجربة بموازاة ذلك، لا سيّما في الروايات التي تجري على ضفاف ثورة 23 تموز/ يوليو 1952. كما في روايته "نعناع الجناين" التي هي حكاية صندوق مسروق، ويمثّلُ سَيرُ الصندوق برمزيته أيّما تمثيل اختلال الواقع بين الأزمنة المختلفة. بخاصّة أنّه لا يكتب شخصيةً بمفردها، بقدر ما يقرأ حقبة من خلال كتابته مجموعاتٍ من البشر.
حكاية فيها من القوّة ما يجعلها تؤسس للواقع وتسبقه
في الشخصيات التي يكتبها شلبي ما يميّزها دائماً، وهو يهتمّ بأن يجعلها تعيش في ذاكرة القارئ؛ إمّا بأشكالها أو بعلاماتها الجسديّة التي تُظهر طبيعة الريف وقسوته. كما أنّها ليست شخصيات مخترعة، بل هي شخصيات عايشها. وغنى تجربته الحياتية جعل صِلاته بالآخرين تتّسع وتتنوّع. فنراه عبر الشخصيات التي يهتمُّ ببنائها وشكل ظهورها حكّاءً بارعاً؛ كلّ ما في نصوصه يمكن أن ينطق بتفصيلٍ ما، بمجرّد أن يختلط الموروث مع المنطوق اليومي. وكأنّما كتب عن مملكة تندثر، أو اندثرت وتركت ما يشيرُ إلى آثارها، وهو يعمل بالضبط في ذلك الحيّز من الآثار الباقية، الآثار التي يلتقطها الفنّ، وتحتاج التنقيب، وقبل ذلك الكثير من الانتباه.
للمكان خصوصية كبيرة في أعمال شلبي، خصوصية بلغت أنّه في إحدى أعماله السردية وهي "بطن البقرة"، كتب حكاية المكان نفسه، لا الشخصيات العابرة فيه، وإنّما سيرة المكان بذاته، سيرة أحجاره وجوامعه وأبنيته ومقابره باستخدام راوٍ عابر. في نوع يجمع الرواية مع الجغرافية، إنّها رواية للجغرافية. أيضاً في روايته "وكالة عطية" بنى فضاءً مكانياً من العناية في الوصف يخاله القارئ نُزلاً موجوداً وتمكن زيارتُه.
عدا عن النماذج التي تمتلئ فيها الرواية لأُناسٍ عانوا الواقع؛ بل إنّ بطل حكايته يمثّل أحد الدروس التي تهبُها الحياة للراوية، إذ يُطرَد من المدرسة بعد مشاجرة مع الأستاذ بسبب أصله الريفيّ في بداية الرواية، ثمَّ ينتقل إلى وكالة عطية، وهناك، ينحدر. وانحداره يمثل عقاب طبقة أعلى لطبقة أدنى، إلى أن ينتهي في السجن. وهذا مصير العابر بين فئتين. وكلّ ما في أدب شلبي يقترب من هذه الدلالة التي تشير إلى أناسٍ غَالَبَهم الانتماء على أمرهم، وليس من المبالغة القول إنّه أمثولتهم.
عرفت العديد من روايات خيري شلبي طريقها إلى الشاشة، ومن أبرز أعماله "وكالة عطية"، و"الوتد"، و"زهرة الخشخاش"، و"الأوباش"، و"السنيورة"، و"صالح هيصة". وهو مكتشف ومحقّق قرابة مئتي مسرحية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ومكتشف قرار النيابة في قضية كتاب "الشعر الجاهلي" لطه حسين (1889 - 1973)، ومحضر هذه القضية يمثّل انتصاراً للثقافة الحرة والتحقيق العِلمي في مسائل المنع، ما نفتقده اليوم ونعوزه. يشار إلى أنَّ "دار الكرمة" المصريَّة أعادت طباعة عدد من أعمال خيري شلبي منها: "موال البيات والنوم"، و"العراوي"، و"نعناع الجناين"، و"منامات عم أحمد السماك"، و"بطن البقرة"، وفي جديدها "رحلات الطرشجي الحلوجي" و"الشطار".
* روائي من سورية