تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول، ذكرى ميلاد الباحث واللغوي الأردني ناصر الدين الأسد (1922 – 2015).
في أكثر من موقّف، أعاد ناصر الدين الأسد الذي تحلذ اليوم الثلاثاء ذكرى ميلاده، قوله إن كثيرين اعتبروا أن أطروحته لنيل الدكتوراه بعنوان "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" عام 1955 كانت رداً على كتاب "في الشعر الجاهلي" لأستاذه طه حسين، بل كانت دراسة تأصيلية تأسيسية في مناهج البحث في شعر ما قبل الإسلام، ولذلك طوّف فيه تطوافاً واسعاً عريضاً من أجل أن يضع هذه الأصول لدراسة موضوعها من الخارج وليس من الداخل؛ أي دراسة المصادر لا البعد الفني النقدي.
توضيح الباحث واللغوي الأردني (1922 – 2015) ظلّ بعيداً عن القبول لدى معظم الدارسين، ربما عزّزه الغضب الشديد لطه حسين، ومهاجمته الشخصية لتلميذه بأغلظ القول، ما تسبّب بألم كبير للأسد سرعان ما تبدّد بعد أن بادر صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" بتطييب خاطره بعد عدّة أيام فقط، وبقي الأسد ضيفاً دائماً في مجلس طه حسين الذي كان يحتشد بالضيوف ثم تبدّلت الحال، ولازمه حين لم يعد يزور المجلس أحدٌ، وكانت الزيارة الأخيرة قبل رحيل طه حسين بأسابيع معدودة.
شكّلت أطروحته حول مصادر الشعر الجاهلي علامة فارقة في ذاكرة الثقافة العربية
لم تغب تلك الواقعة بتفاصيلها في ذاكرة الثقافة العربية لأسباب مختلفة خاصة أن الأسد، الذي لم يكتب سيرة ذاتية، وحافظ على دبلوماسيته المعهودة في الحديث عن كثير من محطّات حياته والعلاقات التي ربطته مع شخصيات ثقافية وسياسية، قال يوماً في معرض الاستعادة: "وحين أنهيت المرحلة الإعدادية وبدأت في المرحلة الثانوية وتلك أيام تختلف عن هذه الأيام، قرأت كتاب الدكتور طه حسين فأصابني بالفجيعة بشيء أعتز به، هذا الشعر الذي يصور نفسي ويصور بيئتي، ويصور قيمي، أيضًا بما فيها من نخوة ومروءة وما فيها من فروسية، فعزمت على أن أغوص في أعماق هذا الشعر لأستبين حقيقته، ثم كان ما كان فهذه هي المرحلة الأولى التي ربطت ما بيني وبين الشعر الجاهلي، ولم أذكر تفصيلاتها ولا بعض تفصيلاتها في الكتب التي ذكرتها لكم، ثم بعد ذلك تبين لي ما في هذا الشعر الجاهلي من روائع ظلمها أكثر النقاد".
من جهة أخرى، فإن أطروحة الأسد شكّلت علامة فارقة في مشواره البحثي والأكاديمي، نظراً لقلة إنتاجه - نسبياً - مقارنة بنظرائه من الباحثين والنقاد، حيث صرف جلّ وقته في تأسيس وإدارة العديد من المؤسسات العلمية والتعليمية ليبقى أثره حاضراً إلى اليوم، وهو الذي وضع اللبنة الأولى في إنشاء "الجامعة الأردنية" عام 1962، كما كان أول وزير للتعليم العالي في الأردن، إلى جانب تأسيسه لـ"المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية".
وُلد صاحب كتاب "نحن والآخر: صراع وحوار" في العقبة لأب عمل في الإدارات الأولى لإمارة شرق الأردن، حيث شغل منصب قائمقام المدينة ومدير الجمارك فيها، والتحق بالكلية العربية في القدس عام 1936، ثم انتقل إلى القاهرة التي تخرّج من جامعتها عام 1947، وبعد تخرّجه عُيّن معلّماً ومقدّم برامج في "إذاعة الشرق الأدنى"، ليعود إلى القاهرة ويكمل دراسته العليا فيها.
عبّر صاحب "الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن حتى سنة 1950" عن انتمائه إلى اللغة العربية من خلال التزامه الصارم بمناهج البحث العلمي في دراساته، وتكريسه عشرات السنين؛ محاضراً وباحثاً، وناقداً، ومحققاً، وناظماً للشعر، ترك مؤلّفات عديدة، منها "القيان والغناء في العصر الجاهلي" و"نحن والآخر" و"الأمالي الأسدية" و"نشأة العصر الجاهلي وتطوره".
آمن الأسد الذي درّس لأكثر من ستين عاماً، بموقع اللغة العربية وأهميتها في بناء المعرفة والإنسان، ودافع عن قناعته في كتبه ومحاضراته وعمله في الشأن العام، ورأى في لغة الضاد طريقاً للتنوير والتحديث، وفي ثقافتها أساساً لفهم الذات والآخر معاً.