"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي... لحظة فلسطينية

10 ديسمبر 2023
مريد البرغوثي في ميلانو، أيلول/ سبتمر 2014 (Getty)
+ الخط -

"رأيت رام الله" (1997)، كتاب الشاعر مريد البرغوثي (1944 - 2021) الذي أُعيد نشره في حينه مرّات، هو كما يحمل اسمه جزءٌ من سيرة ذاتية، بل يكاد أن يكون سيرة كاملة. الشاعر الذي وُلد في دير غسّانة التي هي ناحية قريبة من رام الله أو منها، لم يستطع العودة إليها بعد أن غادرها إلى مصر، في مصادفة سيّئة في 1967؛ عام الهزيمة العربية التي لم يعُد بعدها بإمكان المغادرين من فلسطين أن يعودوا إليها.

في مصر، درس مريد البرغوثي الأدب الإنكليزي، وتزوّج رضوى عاشور الروائية المعروفة، وأنجب منها ولداً هو الشاعر تميم. لكن إقامته لم تطُل، فقد شارك، وهو الفلسطيني، في الاحتجاج على رئيسها أنور السادات لدى زيارته إلى "إسرائيل". لم يكن يومها يدري أنّ هذا ليس متاحاً لمن هو غير مصري، وسيُعتبر بسببه "مندسّاً".

هكذا، جرى ترحيله، الأمر الذي اقتضى منه سنوات، بل وعقوداً، من الترحال والمفارقة من بلد إلى بلد، إلى أن سُمح له بالعودة إلى مصر، ثمّ كانت أوسلو وصار بإمكانه العودة إلى رام الله، الأمر الذي سارع إليه، وما لبث أن استقدَم إلى فلسطين عائلته، وأمضى وقتاً في المدينة التي كانت، حين مغادرته لها، ريفاً فحسب، وصارت بعدها مدينة عامرة.

من كل ذلك تخرُج فلسطين متعدّدة لكن مجتمعة في زمن واحد

كتاب مريد البرغوثي، ابن أكبر أُسرة في فلسطين، لا يعدو أن يكون سيرة، سيرة العودة وسيرة الشتات وسيرة التغرب الطويل الذي طبع هذه السيرة، بل وطبع صاحبها فصار في عين نفسه، وفي عين أسرته وأهله وصحابه، الغريب بامتياز، بل إنّ مقاطع الكتاب لا تكتفي بالدوران حول هذه التسمية، بل تتعدّى ذلك إلى نحت مفهوم لها، وإلى عرضها على الفكر، وإلى تناولها كشرط إنساني، وكمعنى للوجود، وكعنوان شخصي: "روّضتُ نفسي على ذلك الشعور بأن بكرج القهوة ليس لي، فناجين قهوتي من ممتلكات المالك، أو من مخلّفات المستأجر السابق"، و"أنا لا أعيش في مكان، أنا أعيش في الوقت، في مكوّناتي النفسية، أعيش في حساسيتي الخاصّة بي".

هنا لا نجد الغربة فحسب، بل نجد تأمّلاً فيها وفي تفاصيلها وفي معناها، تأمّل هو أيضاً من الأدب، بل هو في مستوى من رفع اليوميات إلى الأدب. إنّنا هنا أمام أدب اليوميات، أمام التفكير في التفاصيل وحول التفاصيل والبناء منها وعليها، والمزاوجة الدائمة، صورة بعد صورة، وجزئية بعد جزئية، وملاحظة فوق ملاحظة، وتعليقاً على تعليق، في ما يبدو لأول وهلة نثرات متفرّقة، وتفاصيل واسترجاعات، وعوداً على ماض قريب وراهن محسوس، واستذكارات واستعادات.

رأيت رام الله - القسم الثقافي

لكن فنّ مريد البرغوثي، إذا جاز القول، هو في هذه الموازاة بين الواقعة الصغيرة القريبة وشبه المحسوسة، وبين الأسلبة الدافئة الطرية، والهمس بها بما يشبه البثّ، وما يقف على حافة البوح، وبين هذا النزوع الضمني إلى ملاحظة هي وليدة العين والفكر معاً، بل هي نوع من الفكر الذي يبدأ من الأشياء، الفكر الذي لا يبتعد عن الوقائع، بل يبدو سرياناً فيها، كما يبدو جزءاً عضوياً منها. إنه، على نحو ما، كلامها لو أتيح لها أن تنطق، إنه في محاذاتها، في جوارها، بل هو لصيق بها إلى حدّ الاندماج.

هناك الواقعة الصغيرة التي تظهر وتتجلّى كصورة وكفكرة. لا تتعالى الفكرة عن الواقعة ولا تفلت الصورة منها، ولا يرتفع الكلام إلى حدّ الغناء وحدّ الخطابة، بل يبقى مع ذلك متسقاً متلاحماً ومتكتلاً، فنحن هنا أمام واقعة لا تعتم أن تصير صورة، لا تعتم أن تغدو فكرة، وكلُّ ذلك يسري بما يشبه الغناء، بما يشبه درجة من الشعر.

يعود مريد البرغوثي إلى فلسطين، فلسطين يومها، ليجدها ويجد رام الله معها تغيّرت، لكنه في الوقت نفسه يعود وتعود معه استذكارات، ويعود معه أشخاص وأماكن ووقائع وأشياء. يدخل هو الغريب الفلسطيني إلى فلسطين، ويبدأ منذ أن يعبر إليها، في عمل الذاكرة هذا. يتهافت عليه الأشخاص والأشياء والتفاصيل في كل مكان، إنّه في لحظة واحدة، بل في اللحظة ذاتها، يعاين ويسترجع، يلاحظ ويتأمّل ويتذكّر. إنها فلسطين، فلسطين الولادة وفلسطين الشباب الأوّل وفلسطين الغياب الطويل، وفلسطين الغريب العائد هو الآخر وقد تراكمت عليه السنوات والتجارب والأفكار، يجرّها معه ويجرّ معها حياة طويلة انقضت في البعد. كلُّ ذلك يتواكب في كتاب مريد البرغوثي، بل ويتواصل.

تتكون لحظة الكتاب من هذا الزمن المضاعف، هي في القدرة على مزاوجة كل هذه الأمكنة والأيام والأحداث، من بعيد ومن قريب، هكذا يجري بعضها مع بعض، وتتواصل بعضها مع بعض ويتولّد من هذا الجمع والتجاوز والائتلاف ما يكاد يبدو صورة واحدة، وإن تكُن متعدّدة، لزمن واحد، وإن يكن متفرّقاً. من كل ذلك تخرُج فلسطين مزدوجة متعدّدة مضاعفة، لكن مجتمعة ومتكاملة في زمن واحد.


* شاعر وروائي من لبنان

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون