لعل راؤول زوريتا اليوم أهم الأسماء في الشعر الإسباني وأكثرها تقديراً. تكريمات متلاحقة. من "جائزة الملكة صوفيا للشعر" لعام 2020 التي تعتبر أبرز الجوائز الشعرية في العالم الإسباني، لينال اعترافاً كبيراً، مرةً أخرى، كواحدٍ من أهم المؤلفين الأساسيين والمؤثرين في الشعر الإسباني بمنحه جائزة الشعر العالمية: فيدريكو غارسيا لوركا، أواخر العام المنقضي. شاعر بالغ الأصالة، وملتزم بقضايا الإنسان مع شعور مأساوي تبرره كثرة التقاطعات الحادة والمفترقات التاريخية التي يتعرّض لها إنسان عالمنا وزماننا.
وهو أيضاً أَحد ضحايا تاريخ بلاده، عندما حاول في خِضمّ ديكتاتورية بينوشيه أن يعمي عينيه بغاز النشادر، معتقداً أن التضحية وتعذيب الذات احتجاجاً هو أيضاً تصدٍّ من الذات الجريحة لجميع أشكال السياسة الجائرة. في حقيقة الأمر، عندما فعل زوريتا ذلك، كان يشير إلى انحراف أخلاقي، إلى شكل من أشكال الجحيم، وإلى أرض قاحلة يكافح فيها الإنسان كي يعثر على مكان له.
يوسّع منطقة الشعر ليقدّم وصفاً لما نعيشه من فظائع
في كِتابه الأخير الذي يحمل عنوان "إلهي لا يرى"، والذي صدر حديثاً عن دار "باسو روتو" المكسيكية - الإسبانية، يبدو زوريتا مثل الشاعر هولدريلين أو الشاعر سيلان، إنساناً بلا وطن، وهو بهذا يؤكد أن "ما نحبه ليس أكثر من ظل". وحده الشعر يقدر أن يعيد بناء مقبرة أولئك الذين اختفوا في نظام الرعب، وليست قصائد الكتاب إلا أنشودة حِدادٍ وشكلاً من أشكال التذكّر والعودة.
من يقرأ زوريتا لا يستطيع إلّا أن يفكر في المذابح التي لا تنتهي في التاريخ، لا يستطيع إلّا أن يسمع أصواتاً تدلّنا على الخراب والعنف والقلق والألم الحاضر دائماً في حياتنا. قصائد زوريتا حوار دائم مع الموتى، حوار تتكسّر فيه الكلمة، تتكرّر، تعلو وتهبط وتكسب قوة البحث عن المعاني الحقيقية التي دُمِرت أو التي أخفوها عنّا.
ظهيرة يوم العاشر من شهر أيلول/ سبتمبر من عام 1973، عندما استولى بينوشيه على السلطة، هي اللحظة التي يبدأ فيها كل شيء، شعرياً، بالنسبة لزوريتا: الحوار مع الموتى، الأصوات الضائعة، حضور الغياب، والثقوب السوداء.
يقدّم زوريتا وصفاً لكل هذه الفظائع من خلال البحث في عالم اليوم عن أثر الفظائع الجديدة، موسّعاً بذلك منطقة الشعر، حيث النثر والملحمة، اللغة الرصينة والشعبية، القصائد التقليدية والارتجالية. إن البحث عن هذا الجنس الأدبي الجديد من أجل صيد فائض التاريخ مثير، وهو شبيه بذلك الجنس الأدبي الذي ابتكره ذاك المنفي الآخر، دانتي، في أثناء نزوله إلى الجحيم وبحثه عن الأشباح.
لئن كانت يد راؤول زوريتا ترتعش اليوم بسبب مرض الباركنسون، فهو يحدّثنا عن ارتجاف هذا الزمن الذي لا يتوقّف عن إنتاج الأزمات بكلّ أشكالها: الأخلاقية، والسياسية، والفكرية والثقافية. مع ذلك يُجهد نفسه في الإيحاء لنا أن الإنسان لا يزال موجوداً، ينتظر الغائبين ويمنحهم صوته، بانياً بذلك ذكرى خسائرهم. الآن، بعد مضي كل هذه السنين، صار بإمكاننا أن ندرك إلى أي مدى يتشابه زوريتا الشاعر مع زوريتا القصيدة. وليس كتاب "إلهي لا يرى" إلا دليلاً على ذلك.
* كاتب ومترجم سوري مقيم في إسبانيا