لم يمهل الزمن السلطان المملوكي الظاهر بيبرس لكي يستكمل حروبه لإخراج الصليبيين من بلاد الشام، فتصدى للمهمة خليفته السلطان المنصور قلاوون الذي عزم في عام 1285م على استكمال ما بدأه بيبرس وبدأ بقلعة المرقب، فما كان من البابا الكاثوليكي هونيريوس الرابع إلا أن بدأ حركة دبلوماسية نشطة لحشد ملوك أوروبا ومع يتحالف معهم لاستعادة الأراضي المقدسة من أيدي السلاطين المماليك.
ومن جملة الذين وصلهم رسل البابا ملك المغول أرغون خان (1258 - 1291م)، فاستدعى جاثليق السريان النساطرة يهبالاها الثالث، وكان هو الآخر مغولي الجنس، واستشاره في الأمر، فاتفقا على إرسال الربان صوما، وهو أيضاً من المغول، مع وفد كبير إلى روما برسائل وهدايا للبابا ولملوك أوروبا، للبحث في توقيع اتفاق تحالف بين الطرفين للهجوم معاً واستعادة بيت المقدس وباقي الأراضي المقدسة من أيدي المسلمين. وقد دوّن الربان صوما وقائع رحلته عند عودته، وضمت إلى سيرة الجاثليق يهبالاها المغولي. وقد حققها ونشرها في باريس بالسريانية الأب بولس بيجان عام 1895م.
في القسطنطينية
انطلق الربان صوما في رحلته من أحد موانئ بلاد الروم على ساحل المتوسط، وهو على الأرجح ميناء طرطوس، وركب، هو وصحبه من الكهنة والشمامسة، سفينة تحمل أكثر من ثلاثمائة رجل أغلبهم من الروم، كما قال، ولما اقترب من القسطنطينية أوفد إلى الإمبراطور البيزنطي أندرونيقوس الثاني رجلين يخبرانه بوصول وفد أرغون ملك المغول، فأرسل الإمبراطور جماعة من رجاله استقبلوهم مرحبين، وأدخلوهم إلى العاصمة باحتفال وإجلال كبيرين، وأعد الإمبراطور للربان صوما داراً مخصوصة لسكناه، وبعد أن أخذ نصيباً من الراحة قصد الإمبراطور الذي كان قد أعد له ولصحبة مأدبة طعام. ويبدو أن صوما لم يخبر الإمبراطور بأهداف رحلته الحقيقية، بل طلب منه أن يأذن له بزيارة كنائس العاصمة، فزار كنيسة آيا صوفيا التي قال "إنها تشتمل على ثلاثمائة وستين سارية، كل سارية قطعة واحدة من الرخام الأخضر، أما قبة المذبح فإن اللسان يقصر عن وصف علوها وعظمتها. وقد عاينت في الكنيسة صورة العذراء التي رسمها لوقا الإنجيلي، ويد يوحنا المعمدان وذخائر لعازر ومريم المجدلية، وغير ذلك من ذخائر منسوبة للمسيح وأمه، كما زرت ضريح يوحنا فم الذهب وضريح الملك قسطنطين وضريح جستنيان، وكنيسة آباء المجمع النيقاوي الثلاثمائة والثمانية عشر".
بركان صقلية
وبعد ذلك استأذن الربان صوما الإمبراطور أندرونيقوس لكي يسافر إلى روما، فأذن له وزوده بلوازم السفر والتقدمات، والهدايا الذهبية والفضية، فسافر إلى إيطاليا ومر من أمام بركان إيتنا العظيم في جزيرة صقلية، فقال في وصفه إنه "جبل شاهق ينبعث منه الدخان طول النهار، ويتحول طول الليل إلى نار ولا يتيسر لكائن من كان أن يدنو إليه بسبب رائحة الكبريت المنبعثة منه، ويزعم البعض أن فيه تنيناً عظيماً، وهذا البحر يسمى بحر إيطاليا بادت فيه سفن عديدة لتواتر الهيجان والزوابع فيه".
وأخيراً، وبعد مرور شهرين من بدء رحلته وصل الربان صوما إلى مدينة نابولي، فنزل بها وزار ملكها شارل الثاني، فرحب به وأكرم مثواه، وكانت الحرب يومها مشتعلة بينه وبين الملك يعقوب ملك أراغون في إسبانيا، وكان يعقوب المذكور قد أرسل جنوداً في سفن كثيرة إلى إيطاليا، وقتل اثني عشر ألفاً من عساكر شارل الثاني وأغرق سفنهم، وكان الربان صوما وأصحابه وقتئذ واقفين على سطح الدار يشاهدون القتال متعجبين من عادة الفرنج، الذين لم يكونوا يتعرضون إلا لمن كان في ساحة القتال.
ركب الربان صوما وصحبه على الرواحل متوجهين براً إلى روما، فمروا بمدن جميلة وقرى كثيرة حافلة بالسكان والخصب والعمران، وبلغهم قبل وصولهم أن البابا هونيريوس الرابع قد تنيح في الثالث من نيسان/ أبريل 1287م. ولما وصلوا إلى روما زاروا كنيسة مار بطرس وبولس، حيث قلاية البابا، وكان يدبر أمور الكنيسة بعد وفاة البابا اثنا عشر كردينالاً اجتمعوا لانتخاب بابا جديد. فأوفد الربان صوما يفيدهم أن الملك أرغون وجاثليق الشرق أرسلاه مع أصحابه إلى روما لزيارة البابا، فاستدعوهم وأذنوا لهم في الدخول، وكان يرافق الوفد رجل إفرنجي لقن الزوار أن يسجدوا أولا أمام مذبح قلاية البابا، ثم يتقدمون فيحيون الكرادلة تحية السلام، فأدى الزوار ما أشار عليهم المرافق، وابتهج الكرادلة بذلك، ولكنهم لم يقفوا للربان صوما، بل أمروه بالجلوس، فجلس، وسأله كبير الكرادلة عن سبب مجيئه؟ فقال إنه أتى من أجل بحث مستقبل أورشليم مع البابا. قال الكاردينال: خذ قسطاً من الراحة الآن، ثم نتفاوض في الأمر. وعينوا له داراً للإقامة.
بين يدي كرادلة روما
بعد ثلاثة أيام أرسلوا في طلبه، واستفسروه عن وطنه وعن سبب رحلته؟ فقال لهم إنه شماس القلاية وكبير التلامذة المبعوث العام. قالوا عجباً أنت مسيحي وخادم كرسي المشرق البطريركي وقد أوفدك إلينا ملك المغول. قال: لا يخفى عليكم أيها الآباء أن جملة من آبائنا قصدوا بلاد المغول والترك والصين ونصروا سكانها، وقد ازداد اليوم عدد النصارى هناك. فأبناء الملوك والملكات قد اصطبغوا بماء العماد، وهم يؤمنون بالسيد المسيح، وعندهم كنائس نقالة تتبع جنودهم وعساكرهم، وهم يحترمون المسيحيين احتراماً فائقاً، أما ملكهم فيعز الجاثليق ويحبه، وفي نيته أن يستولي على بلاد فلسطين وسورية، فيرغب أن تنجدوه في فتح أورشليم. وهذا ما اضطره أن يختارني أنا المسيحي ويرسلني إليكم لتثقوا بقوله. قالوا ما هي عقيدتك وطريقتك، هل تعتقد عقيدة البابا أم غيرها؟ قال: لم يواف بلادنا أحد من قبل البابا غير الرسل الذين ذكرت لكم أسماءهم، هم الذين نصرونا وما زلنا متمسكين بتعاليمهم. قالوا قرر صورة إيمانك. قال: إني أؤمن بإله واحد محتجب أزلي سرمدي لا بداءة له ولا نهاية. الآب والابن والروح القدس، ثلاثة أقانيم متساوية غير منقسمة..
وطال الحديث في مسائل الدين، وبالغ الكرادلة بالربان صوما إلى أن قال لهم: ما قدمت من بلاد بعيدة لأجادل بل لأتبرك من السيد البابا وأتيمن بأضرحة القديسين، وأعرض عليكم إن شئتم سبب شخوصي إليكم.
كنائس روما وزيارة باريس
استدعى الكرادلة أمير المدينة وطائفة من الرهبان وأوصوهم أن يطوفوا مع الوفد في كنائس روما ومعاهدها المقدسة، فزاروا أولاً كنيسة القديس بطرس وبولس، وشاهدوا تحت المذبح مغارة تحتوي على جثمان مار بطرس وتعلو المذبح أربعة أبواب فوقها أعمدة من الرصاص اللامع المطعم بعدة صور، وعليه يقيم البابا الذبيحة الإلهية. ثم شاهدوا كرسي مار بطرس حيث يجلس البابا عند رسامته، ورأوا قطعة كتان خالص مدبج بصورة السيد المسيح التي أوفدها إلى أبجر ملك الرها.
ويقول الربان صوما: "يقصر اللسان عن وصف عظمة تلك الكنيسة وزينتها الفاخرة، فهي قائمة على مائة وثمانية عواميد، وفي هذه الكنيسة مذبح ثان حيثما يتوج البابا ملك ملوكهم المدعو إمبراطوراً. وقيل إن البابا بعد تلاوة الصلوات يلمس ذلك التاج برجليه، ثم يضعه على رأس الملك مؤكداً أن الكهنوت يفوق السلطان ويسوده".
بعد ذلك خرجوا إلى كنيسة مار بولس وزاروا ضريحه تحت المذبح، وشاهدوا السلسلة التي أوثق بها عندما ذهبوا به إلى منقع العذاب. ورأوا في المذبح صندوقاً ذهبياً يشتمل على رأس مار إسطفان الشهيد، وعلى يد مار حنانيا الدمشقي الذي عمد بولس، وعلى عصا بولس الرسول، ثم زاروا مكان استشهاد مار بولس.
وبعد أن زاروا جميع الكنائس التي تحتوي ذخائر القديسين، والتي يعددها الربان صوما بتفصيل ممل، عاد إلى الكرادلة وشكرهم واستأذنهم في استئناف الذهاب إلى زيارة الملوك، فأذنوا له، واعتذروا منه قائلين: ليس في إمكاننا أن نجيب طلبك قبل رسامة البابا الجديد.
ارتحل الربان صوما والوفد المرافق له إلى توسكانا، حيث لاقوا إكراماً، ووصلوا إلى جنوى، ولاحظ أن الأهالي في هذه المدينة لا ملك لهم، لكنهم ينتخبون من يحبون من مشاهيرهم ويولونه سياستهم، ولما بلغ الجنويين خبر وصول وفد ملك المغول خرج كبيرهم في جمع كبير من الناس، وأدخلهم إلى المدينة بحفاوة زائدة، وزاروا كنيسة مار لورنسيوس حيث يُصان رفاة مار يوحنا المعمدان في صندوق من الفضة الخالصة، وشاهدوا طبقاً من الزمرد مسدس الزوايا هو فيما قيل الطبق الذي تناول فيه السيد المسيح العشاء السري مع تلاميذه، وقد نقل إلى جنوى وقت دمار أورشليم، كما أخبروه.
وبعد ذلك توج الربان صوما وصحبه إلى لومبارديا، وعرفوا أن أهلها لا يصومون أول أسبوع من الصوم الكبير، فاستفسروهم عن السبب؟ فقالوا إنما اعتدنا ذلك لأن أجدادنا كانوا ضعيفي الإيمان في عنفوان تنصرهم، فأطلق لهم متلمذوهم أن يقتصروا على الصيام أربعين يوماً فقط. ثم سار الوفد إلى فرنسا لزيارة الملك فيليب الرابع في باريس، فخرج جمهور المسيحيين لاستقبالهم، ورحب بهم الملك وبالغ في الاحتفاء بهم، وعين محلاً لإقامتهم. وبعد ثلاثة أيام أوفد الملك أميراً من أمرائه فاستدعى إليه الربان صوما واستقبله بإكرام، وقال له: لماذا أتيت إلينا، ومن الذي أرسلك؟
قال الربان: "أرسلني الملك أرغون وجاثليق المشرق في مسألة أورشليم، وشرحت له كل شيء بالتفصيل، ودفعت إليه الرسائل وقدمت له ما أحضرته من الهدايا والتقدمات، فقال الملك إن كان المغول، وهم ليسوا بمسيحيين يرومون أن يحتلوا أورشليم من يد المسلمين؛ فنحن الأولى بالقتال في هذا السبيل ونقصدها في عساكرنا إن يسر الله. قلت للملك: لقد شاهدنا بأم أعيننا مملكتكم المجيدة، وعزكم وسطوتكم فنرغب أن تأمروا بعض رجالكم ليجولوا معنا كي نزور الكنائس ومدافن القديسين ونتيمّن بذخائرهم، ونتفقد ما في عاصمتكم من الآثار النادرة والنفائس الثمينة".
ولبث الربان صوما في باريس شهراً كاملاً زار فيه المدارس التي تضم ثلاثين ألف طالب يتلقون على نفقة الملك جميع العلوم الكنسية والآداب والفنون وشروح الكتاب المقدس، والفلسفة والفصاحة والطب والهندسة والحساب وعلم الفلك والنجوم. وشاهدوا في إحدى الكنائس أضرحة الملوك المتوفين تعلوها تماثيلهم الذهبية والفضية، يتولى حراستها وخدمتها خمسمائة راهب يأكلون ويشربون على حساب الملك، ويواصلون فيها الصوم والصلاة.
ويخبرنا الربان صوما أنه زار كنيسة الملك فألفاه منتصباً يصلي إلى جانب مذبحها، فسلم عليه وشكره على جميله، فمضى بهم على غرفة ذهبية فتحها وأخرج صندوقاً من البلور الفاخر النقي فيه إكليل الشوك الذي كلل به اليهود هامة المسيح، وجزء من خشب الصليب. وأفادهم الملك أن أباءه لما استولوا على قسطنطينية وغزوا أورشليم نقلوا تلك الذخائر المباركة إلى باريس. فبارك الربان صوما الملك واستأذنه في الرجوع، فقال له الملك: إني مرسل معكم وزيراً من وزرائي في جواب مني إلى أرغون الملك. ثم أتحف الربان صوما بهدايا وأقمشة فاخرة.
ضيفاً عند الملك إدوارد في إنكلترا
انطلق الربان صوما وصحبه إلى إنكلترا لزيارة ملكها إدوارد، وقضوا في الطريق عشرين يوماً، ولما شارفوا مدينة لندن خرج الأهلون لاستقبالهم واستوضحوهم أمر قدومهم، فأخبرهم أنهم رسل ملك المغول. وعندما علم الملك إدوارد (الصورة) بذلك رحّب بهم وأدخلهم إلى بلاطه، ودفعوا إليه كتاب الملك أرغون وهداياه وكتاب الجاثليق يهبالاها المغولي، فابتهج ابتهاجاً عظيماً، ولا سيما بعد أن عرف أن المسألة منوطة بأورشليم، وقال: نحن ملوك هذه البلاد نحمل راية الصليب مفتخرين، ولا نفكر إلا في هذه القضية، وقد طاب لي أيضاً أن الملك أرغون يفكر أيضاً فيما نفكر فيه. وقد زار الربان وصحبه كنائس لندن وأضرحتها، وحمّلهم الملك إدوار رسالة إلى الملك أرغون أن أوروبا كلها تدين بديانة واحدة هي المسيحية، ثم أتحفهم بالهدايا والتقدمات قبل أن يعودوا إلى مدينة جنوى الإيطالية التي قال في وصفها: "فيها حدائق ظريفة كأنها الفردوس، شتاؤها وصيفها معتدلان، تكثر فيها الأشجار وأوراقها لا تنتثر وتكاد لا تخلوا من الثمار، وفيها شكل عنب يحمل في السنة سبع مرات ولا تعصر منه خمر".
البابا الجديد
مكث الربان صوما وصحبه فترة طويلة من الزمن في جنوى انتظاراً لانتخاب بابا جديد، حتى التقى قاصداً بابوياً قال له: "أيها الحبيب المحترم إن الملك أرغون وجاثليق المشرق أوفداني إلى هذه البلاد لأفاوض مولاي البابا في مسألة أورشليم، وقد مرت السنة، وإلى الآن لم ينتخب بعد بابا، فلست أدري بماذا أجاوب المغول قساة القلوب متى وصلت إلى وطني، فهم يريدون أن يحتلوا مدينة أورشليم، والذين يهمهم الأمر لا يكترثون للمسألة على ما أرى، ولا يفكرون فيها". فقال له القاصد البابوي: إنك لمصيب في كلامك، أنا ذاهب إلى روما لأبلغ الكرادلة بكلامك وأحثهم على الإسراع في تسمية البابا الجديد.
واستدعى البابا الجديد نقولا الرابع الذي انتخب حبراً أعظم في شباط/ فبراير 1288م، الربان صوما إلى روما، فقدم له الربان الرسائل والهدايا، وأصر البابا على استبقائه فترة من الزمن، وسمح له بإقامة قداس باللغة السريانية، كما تناول هو القربان من البابا واعترف بذنوبه بين يديه وهو يذرف الدموع.
وقد وصف الربان صوما تفاصيل طقوس الاحتفالات بالجمعة العظيمة وسبت النور وأحد القيامة، وتحدّث عن آلاف مؤلفة كانوا يشاركون في الاحتفالات المهيبة. وحين استأذن البابا بالعودة إلى وطنه، زوّده البابا بهدايا للجاثليق يهبالاها منها؛ تاج ذهبي مرصع بحجارة كريمة، وحلة حمراء منسوجة بالذهب، وحذاء مزدان بلآلئ دقيقة، وخاتماً كان في أصبعه. وحمله أيضاً منشوراً يخول الجاثليق سلطاناً على جميع أبناء المشرق، ودفع إلى الربان صوما صكاً يوليه أن يتعهد جميع المسيحيين. ثم زوده بالبركة وجاد عليه بألف وخمسمائة مثقال من الذهب نفقات الطريق، وأوفد للملك أرغون كتاباً وهدية ثمينة.
وعاد الربان صوما إلى مدينة مراغة، في إيران الحالية، مقر إقامة الملك أرغون المغولي، وسلمه الرسائل والهدايا التي حملها من البابا وملوك الغرب، فقرر الملك أرغون بناء كنيسة للربان صوما مكافأة له على نجاح مهمته.