بينما كان الناخبون الإسبان يدلون اليوم بأصواتهم في انتخابات إقليمية وبلدية ستكون نتائجُها مقياساً للانتخابات العامّة المقرَّرة نهاية العام، كان ثمّة خبرٌ آتٍ من قرطبة لا يقلّ أهمّية. في هذا الصباح، صمَتَ صوتٌ أدبيٌّ ظلَّ حاضراً طيلة أكثر من نصف قرن، جعل خلالها كُتب الشعر الأكثر مبيعاً حين لم يكن أحدٌ يشتري كتاباً شعرياً.
كان هذا الصوت قد بلغ من العمر 92 عاماً، إلّا أن حدّته كانت لا تزال قادرة على ترويض أكثر الأحصنة هيجاناً، حصان الشعر، مع ذلك كان قد قرر منذ العام 2010، أن يقلّل من ظهورهِ الإعلامي، لا سيّما عندما أعلن هو نفسه عن أصابته بسرطان القولون الذي شُفي منه في العام 2015. ولكنه منذ ذاك، قرّر أن يكون بعيداً عن الأضواء، حيث يستطيع أن يتذكر الزّمن الذي تركه وراءه بحرّية.
نعم، لقد سرقت الريحُ منا اليوم في قرطبة الشاعر والمسرحي والروائي الأندلسي أنطونيو غالا، عن عمرٍ يناهز الثانية والتسعين، وفقاً للبيان الرسمي الصادر عن عائلة الفقيد وعن الجمعية التي تحمل اسمه.
وقد جاء في البيان "إن عائلة الشاعر وإدارة "جمعية أنطونيو غالا" تنقل لكم أحرّ التعازي، وتبلغكم بنبأ رحيل الأستاذ العزيز والمؤسس أنطونيو غالا، الذي حدث في فجر هذا اليوم".
ولد أنطونيو غالا عام 1930، وعلى الرغم من أنّه لم يولد في قرطبة، بل في إحدى قرى مقاطعة سيوداد ريال، برازتورتاس، على وجه التحديد، إلا أنّه لم يتردد في القول عن نفسه إنّه أندلسي الهوى، ولا سيمّا قرطبي، إلى درجة أن معظم الذين كتبوا سيرته الذاتيّة دوّنوا ولادته في قرطبة بناءً على رغبته الشخصيّة.
بدأ الكاتب القرطبي مشواره الإبداعي في سن صغيرة جداً، إذ كتبَ أوّل قصة قصيرة له في سن الخامسة. أمّا أول مسرحية فكانت في عامه السابع. التحق غالا بـ"جامعة إشبيلية" للحصول على شهادة في القانون، كما التحق في "جامعة مدريد" لدارسة الآداب والفلسفة، والعلوم السياسية والاقتصادية.
خلال سنواته الجامعية، نشرَ أنطونيو غالا أول قصائده الشعرية في مجلات شهيرة في تلك الفترة، كما أنه أسّس مع غلوريا فويرتيس وخوليو ماريسكال مونتيس مجلتي "الجب" و"قوس الشعر".
بعد حصوله على إجازة القانون، مارس عمل المحاماة بعد أن أجبره والده على ذلك، إلّا أنه لم يستطع الاستمرار، وترك العمل بعد عام. في السنوات اللاحقة سيتابع القرطبي دراسة الآداب في مدريد، وسيعمل في معاهد مختلفة كأستاذ في الفلسفة وتاريخ الفنون.
في عام 1959، سينشر أنطونيو غالا ديوانه الشعري الأول بعنوان "عدو حميمي"، والذي سينال على الفور "جائزة أدونيس للشعر"، حيث أعلنت لجنة الحكام آنذاك عن "ولادة شاعر سيعيد للغة الإسبانية ألقها الشعري". بعد هذا الديوان، والذي أُعلن عن ولادة شاعر إسباني متجذر، نشر غالا "قصائد قرطبية" (1994)؛ "قصائد حب" (1997)، وهنا سيبدأ فترة إنتاج إبداعي غنية جداً، وسيكتب المسرح، والرواية، والمقالات.
في المسرح، سينال "جائزة كالديرون الوطنية" عن عمله "حقول عدن الخضراء" (1963)، كما أنه سيكتب روائع في المسرح الإسباني مثل: "خواتم من أجل سيدة" (1973)؛ "بيترا ريغالادا" (1980).
وعلى غرار المسرح، سيبدأ أنطونيو غالا اعتباراً من ثمانينيات القرن المنصرم بكتابة الرواية التاريخية التي سيؤكد فيها على الهوية الأندلسية، وعلى حقيقة الحضور العربي في شبه الجزيرة الإيبيرية، مزيلا كل تشويه عن تلك الفترة الإبداعية في مجالات الأدب كافة، حيث سينشر في عام 1990 "المخطوط القرمزي"، والتي ستنال "جائزة بلانيتا للرواية". كذلك سينشر "غرناطة بني نصر" (1994)؛ و"الوله التركي" (1994). وقد ترجم رفعت عطفة الروايات الثلاث إلى العربية.
لا شك أن رحيل أنطونيو غالا عن عالمنا سيترك فراغاً كبيراً في الساحة الأدبية الإسبانية، لا سيّما وأنّه كان شخصاً وكاتباً محبوباً في الوسط الأدبي، ولكن، رغم رحيله، سيبقى اسمُه محفوراً في ذاكرتنا تماما كما قوله: "لسنا وحدنا في هذا العالم، ولا يمكننا الارتجال في كل شيء، إذ لا أحد يستطيع أن يتقدّم دون أن يتذكّر. لا يوجد مستقبلٌ دون ذاكرة. أحمل اسم الأمويّين في روحي، وعلى جبهتي اسم بني عبّاد، وفي قلبي محفورٌ اسم غرناطة بني نصر".