عاش الكاتب الصربي دافيد البَحَري (1948 - 2023)، الذي رحل عن عالمنا في الثلاثين من الشهر الماضي، آخر ثلاثة عقود من حياته في كندا، بعدما ترك صربيا أثناء الحرب العِرقية الدامية التي تلت انهيار وتمزُّق يوغوسلافيا. غادر دافيد البحري (David Albahari) بلاده عام 1994، في ذروة الصراع، وكتب خارجها ثلاثيّته الأهم "الحلقات الكندية": "رجل الثلج" (1995)، و"الإغواء" (1996)، و"الظلام" (1997).
كانت كتُبه قبل المنفى تُعنى بشكلٍ حصريٍّ بعدم قدرة الفرد على التواصُل في مجتمع ما بعد الحداثة، حيث يُواجه مشاكل عدّة مع أناه ومجتمعه ومشاكله اليومية. وكان أسلوبه الفنّي تجريبياً إلى حدٍّ ما، فنتازيّاً، وقلّما يتناول فيه موضوعات واقعية. لكن سرعان ما شهدت مسيرته الأدبية تحوّلاً كبيراً بعد منفاه، وبدأت تأخذ أعمالُه مُنعطفاً فنّياً واقعيّاً، إذ بدأت تتناول موضوعات مثل النزوح والاغتراب، وكيفية تأثير الزمان والمكان على الهويّة الشخصية، لا سيّما تدوين تاريخ يوغوسلافيا وانهيارها فيما بعد.
يمرُّ أبطال البحري في الغالب بمراحل مختلفة من الصدمة الثقافية، عندما يجدون أنفسهم في القارّة الأميركية، وتحديداً في كندا، حيث يشعرون أنّهم بمنفىً شديد اللؤم، ولا يستطيعون التأقلُم مع بيئتهم الجديدة، وسرعان ما يُولِّد هذا الشعور بالغربة إحساساً آخَر لا يقلّ ألماً عن سالفه، خصوصاً أنهم يُحاولون جاهدين الانخراطَ في مجتمع جديد حداثي، لكنّهم يُخفقون في ذلك، وتبقى صربيا ويوغوسلافيا بالنسبة لهم نوستالجيا، أمّا كندا فهي الواقع المرير الذي لا بدَّ منه.
هاجر إلى كندا بعد انهيار يوغوسلافيا وواصل الكتابة بالصربية
أبطالُ البحري صربيُّون مُهجّرون، منفيُّون أو نازحون من الحرب، يبحثون عن وطن بديل، وعن حياة آمنة، لكنّهم يجدون أنفسهم في ديمومة من ضياع، إذ لا يُمكنهم الرجوع لأوطانهم، وليس باستطاعتهم التأقلُم مع الحياة الجديدة التي فُرضت عليهم في كندا، زِد على ذلك، صراعهم الدائم مع اللغة، حيث لا يتكلّمون سوى الصربية في بلدٍ لا يتحدّث إلّا الإنكليزية والفرنسية.
وكان البحري في إحدى مُقابلاته التي أجراها مع "المجلّة السلافية الكندية" (The Canadian Slavonic Papers) عام 2008، قد تحدّث عن أهمية اللغة وصراعها، حيث قال: "أنا لا أكتبُ القصص والروايات إلّا بلُغتي، وهي اللغة الصربية، وغالباً ما يُترجمها مترجمون آخَرون إلى الإنكليزية ولُغات شتّى. بعبارة أُخرى، هويتي الكتابية لا تتغيّر، ولا يمكنها أن تتغيّر، اللغة التي أكتب بها تصفُني بأنّي كاتبٌ صربيٌّ، لكنّ حقيقة أنني أعيش في كندا، تجعلُني كاتباً كنديّاً نوعاً ما، لا سيّما أنّ كندا بلدٌ مُتعدّد الثقافات ويستقطب إمكانية الإبداع بجميع اللغات. أنا أقبل هذه الازدواجية لأنّها تعكس واقعي وحقيقتي، بالإضافة إلى استعدادي لقبول شعور عَرَضي بالارتباك حول هويّتي. وقد يكون اصطدام الثقافات مُهمّاً للكاتب، فهو يفتح موضوعات عدّة يُمكن الكتابة عنها، ومناقشتها من خلال الأدب، فأنا أكتب عن ثقافتين مُختلفتين وتاريخَين وعالمين".
حتّى يومنا هذا لا يزال يُنظر إلى البحري في وطنه على أنّه أحد أكثر الكُتّاب المُعاصِرين إنجازاً وأهمية. في تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2006 انتُخب في "الأكاديمية الصربية للعلوم والفنون"، كأحد أبرز الكتّاب الذين تناولوا تاريخ صربيا بعد انهيار يوغوسلافيا.
نشرَ البحري خلال مسيرته الأدبية أكثر من ثلاثين كتاباً أغلبها روايات ومجموعات قصصية، وعدة كتب مقالات، إضافة إلى ترجماته من الإنكليزية إلى الصربية حيث نقل أعمال مجموعة من أعمال روائيين أميركيّين وكنديّين من القرن العشرين.
البحري الذي كان ناشطاً في أوساط الجالية اليهودية في صربيا قبل مغادرته لها أثناء الحرب؛ لم يتوجّه إلى الكيان الصهيوني الذي يُسهّل هجرة "يهود العالم" ليحوّلهم إلى مستوطنين استعماريين في فلسطين؛ واختار التوجه إلى كندا، وهو في تقديرنا موقف سياسي صمتت عنه وسائل الإعلام الصهيونية التي فضل بعضها التركيز على أصوله اليهودية والثيمات اليهودية في أعماله كمقال لصحيفة "هآرتس" عن رحيله. في محاولة للإيحاء للقارئ كذباً أنه كان قريباً من الصهيونية، كتفسير دفنه في مقبرة في زيمون ببلغراد بأنه عاد إلى البلد الحاضنة للصهيونية ومنشأ تيودور هرتسل قبيح الذِّكر. الصهاينة كالعادة يُلفقّون حتى في الموت.
* كاتب من فلسطين