رسائل لمار

03 يوليو 2024
مقطع من "مسيرة العودة الكبرى" لستيف سابيلا
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تروي الشاعرة من غزة تجربتها المؤلمة خلال النزوح تحت القصف، محملةً رواية تركتها جدتها، وتصف كيف تتشارك مشاعر الأمل واليأس في قلوب النازحين، مع تسليط الضوء على لحظات إنسانية مثل تضامن المرأة مع أمها وطمأنينة الطفل يامن بالأشجار.
- في الرسالة السادسة، تعكس الحياة تحت الحصار من خلال اللهجة الغزية والفلفل الأحمر كرموز للهوية، وتشارك تجاربها في المستشفى حيث تصبح الأطعمة والمشروبات البسيطة رفاهيات، وتروي قصة أحمد الذي قُتل أثناء محاولته الحصول على كوب من القهوة.
- تعكس الرسائل الحياة اليومية في غزة تحت الحصار، متشابكةً مع الذكريات والأمل واليأس، وتظهر كيف تغير الحرب منظور الناس للحياة وتجبرهم على التكيف مع ظروف قاسية، مبرزةً قوة الروح الإنسانية والقدرة على العثور على الجمال والأمل في أحلك الأوقات.

الرسالة الخامسة: الفردوس ليس على الناصية الأخرى

نزحنا يا لمار من مستشفى القدس، لكن يومياتي هناك ما زالت عالقة بين الجدران، وفي ممرّات الطوابق، لذا سأستمر بكتابتها إليك تحت وقع الأصوات والصور، التي اختزنتها ذاكرتي مثلما اختزن بعضاً منها جهاز موبايلي. كان بحوزتي رواية ماريو بارغاس يوسا، "الفردوس على الناصية الأخرى"، وجدتها ضمن مكتبتي التي تركتها خلفي في غزة قبل خمسة عشر عاماً، وحافظت عليها جدتك التي لا تقرأ حرفاً حتى رجوعي. وضعتها في حقيبتي ظناً مني أن الوقت سيتاح لي لقراءتها من جديد، أخذتها ضمن ما حملت حينما تركنا البيت تحت وقع الصواريخ، هل قلت لك إن جدتك، وهي تتكئ على يدي ويد عمك محمود، وقفت للحظة لتصرخ فينا كي نتركها هناك؟ تخيلي! نتركها تحت القصف لشعورها بأن ثقل وزنها، وصعوبة مشيها، ستعرقلنا وتحول بيننا وبين الالتحاق بباقي العائلة، وبالتالي احتمالية إصابتنا إن لم يكن موتنا. كم كان بودّي أن تكون بخفّة ذلك الرجل العجوز الذي رأيت ابنه يحمله على كتفيه ويركض به، كان خفيفاً كطفل في عامه الرابع على الأكثر. ضغطتُ بيدي على يدها وقلت لها "امشي يما"، سنصل، امرأة كانت تطلّ علينا من شباك عمارتها نادت على أمي مُلقية بشبشبٍ من النافذة: "خدي يا حجة البسي في رجلك"، لحظتها فقط انتبهت إلى أن أمّي قد خرجت حافية من البيت، امرأة في الثمانين خرجت تنزح من بيتها تحت وقع القصف، ربما مثلما فعلتْ عندما كانت تبلغ من العمر أربع سنوات ونيفاً، حافية تركض مع أهلها وقت النكبة.

كنا نركض مثل لاعبي الرّغبي لكن دون أن نعرف إلى أي اتجاه نلتجئ، كلّ شيء كان تحت مرمى القصف والصواريخ التي لا تفرق بين طفل يكركر على انزلاق أبيه ووقوعه على الدرج، وبين أمّ تجلس أمام فرن الطين تمدّ يداً تحمل رغيف خبز، حرقته القذيفة المباغتة. شيخٌ على الرصيف المقابل كان يجرّ بيد ابنه الصغير وبالأخرى عجلة تحمل ثلاثة أرباع كيس دقيق، ربما خرجت منه عجنة واحدة، راكضاً دون أن ينظر خلفه. هنا نتعلم ألّا ننظر خلفنا مهما كانت الأسباب مثلما أخبرتني صديقتي وسام ياسين التي تعمل مراسلة لـ"قناة الحرة"، عن امرأة روت لها قصة استشهاد ابنتها وحفيدتها، كانتا وراءها يعبران طريق الموت من غزة إلى الجنوب، وهي قصة سأرويها لك ربما في رسائل قادمة، تقول: رأيت النقطة الحمراء للقنّاص تتخطاني لتنطلق منها رصاصتان، وسمعت صوت ابنتي وطفلتها خلفي، مشينا دون أن نجرؤ حتى على الالتفات وراءنا، هكذا أخبرونا في الحواديت، امشِ ولكن لا تنظر خلفك وهكذا فعلوا.

حينما يغطي الرماد وآثار القصف الوجوه، تتشابه الملامح إلى حدّ مرعب خاصة ملامح الأطفال

عبرنا شارع 8 الذي نقطن فيه في حي تل الهوا باتجاه مستشفى القدس حينما نزحنا من البيت، قرّر جزء منا الذهاب إلى المدارس، غير أن الجزء الآخر استجاب لصراخ زوجة عمك وهي تقول مستشفى القدس، الاقتراح كان يبدو أقرب للمنطق، فالمستشفى لا يبعد أكثر من عشر دقائق مشياً عن البيت، ومن السهل علينا حينما يتوقّف القصف أن نعود إلى بيتنا دون جهد يذكر، كنا سُذّجاً يا حبيبتي، غرّنا أن تل الهوا وعلى مدار الحروب الفائتة بقي سليماً من الدمار. ركضنا حتى مرّت سيارة أمامنا صرخنا على سائقها: "خد هالمرّة العجوز معك". وقف الرجل وصعدت أمي معه برفقة عمّك فهد، وبقيتُ أنا أحثّ السير إلى المستشفى ممسكة بيد ابنة عمك ميرا، البالغة من العمر عشر سنوات، وأخيها يامن البالغ من العمر خمس سنوات. مشهد ميرا وهي تضحك بشكل أقرب للهستيري وتقول ليامن: "ما تخافش يا حبيبي احنا مش رح نموت"، ثم تنظر إلي قائلة بالابتسامة نفسها: "صح يا عمتو، احنا مش رح نموت"، وأنا أحاول طمأنتها وسط لهاثي. يامن كان يعضّ بيده على يدي حتى وصلنا منتزه برشلونة الذي يجاور العمارة التي اشتريتم فيها شقتكم، قلتُ لهما: "امشيا بجوار الأشجار لا بجوار البنايات"، قلتها وصوتي يهتز مع كلّ قصف آت من الخلف، وحين رد عليّ يامن: "صحيح يا عمتو عشان الأشجار ما بتوقع"، لم يتوقع يامن أن كلمته هذه ستنزل على قلبي طمأنينة وسلاماً، وأنها بحروفها القليلة ستصلّب عودي مجدداً، التقطتُ الكلمة من فمه وظللتُ أردّدها طوال الطريق حتى وصلنا إلى باب المستشفى: "الأشجار ما بتوقع، الأشجار ما بتوقع"، نسيت أن أخبركِ، لم يعد وجود لشقتكم يا حبيبتي، صارت رماداً مثلما هو حال باقي أغلب العمارات من حولها، لكن الأشجار هناك لم تقع.
ذهب يامن وميرا مع أهلهما إلى مدرسة تابعة لـ"وكالة غوث وتشغيل اللاجئين" في حي الرمال، وبقيت أنا. 

جدتكِ وجدكِ مع عائلة عمك زياد وعمك محمود في المستشفى. عائلتنا كبيرة، أعرف وهكذا هو حال أغلب الغزّيين، نتسلى بالأكل والدبكة والغناء والشجار وصناعة الأطفال. في البداية، وقفنا على باب المستشفى ننظر إلى تلك الجموع من البشر دون أن نعرف أين سنجلس، وكيف سنبيت هنا وإلى متى؛ كلها أسئلة كنت أجيب عنها حينما يطرحها أحد أبناء عمومتك عليّ: فلنعش بسياسة الخطوة خطوة، كلّ ساعة بساعة، وكلّ ليلة بليلة وكل يوم بيوم. ذهب طارق ومحمد أبناء عمك زياد ليتفقدوا الطوابق كي يجدوا مكاناً يتسع لنا: بضعة مترات طولية في ممرّ أو حتى على مصطبة درج، عاد الشباب ليخبرونا بأنهم قد وجدوا مكاناً لنا في الطابق الثالث، لم نكن نحمل معنا أمتعة تذكر، فقط ما خفّ حمله على الظهر وفي اليدين، كنتُ قد أحضرت كلّ وثائقي، وما تبقى من مال لدي في شنطة على الخصر، وما تبقى من أغراض شخصية وضعتها في حقيبة حملتها على كتفي، فنخرت فيه نقفاً أخذ أياماً كي يلتئم. فرشنا على الأرض وانفرشت أعصابي عليها، كان صوت القصف بهذا القرب جديداً على أعصابي، خمسة عشر عاماً عشتها في هدوء، كنتُ أحسبه موتاً في البداية، وفجأة: بوووووووووووم. تراااااااااااااااخ تررراك، ألقيتُ بجسدي على فرشة لنازحين سبقونا، وسمحتُ لجسدي بالانفلات مني، صوت الصواريخ كان قوياً في أذني إلى الحد الذي ظننت معه أن هذا الصوت سيبقى في الداخل، مثلما فعل صرصار صغير دخل أذني ذات فجر صيفي وأنا نائمة فوق سطح البيت، كان عمري وقتها أقل من سبعة عشر عاماً، والآن جيش من الصراصير الحديدية يقرقع في أذني وحتى كفاي الصغيرتان لم تتمكنا رغم ضغطهما من إيقاف هذا الصرير الجبار، ولسان حالي يقول: ليس في الضفة الأخرى  فردوس يا "يوسا"، نسيتُ أن أخبرك بأني تركت الرواية في خزانة ملفات بغرفة صغيرة في طابق المستشفى. ربما يجد فيها أحدهم واقعاً موازياً أو فردوسه المفقود.


الرسالة السادسة: حينما تسلل خيط الريق من طرف فمي

هل تعرفين يا لمار أكثر ما يميّز الوجود في غزة؟ هو أنك لا تسمعين بالكاد إلا اللهجة الغزّية، تحيطك من كل جانب، تدخل مسامك من الأنف ومن الفم ومن كلّ فتحات ومسامات جسدك، وكذلك يفعل الفلفل الغزيّ، في المستشفى أصبح الفلفل الأحمر المطحون عملة للمقايضة، برغيف خبز أحياناً وبكمشة من السكر في أحيان أخرى، تعرّفتُ هناك إلى شباب من حارتنا، كانوا يورّدون لي قليلاً منه مخبأً في زجاجة بلاستيكية ملفوفة بكيس أسود، كأنها ممنوعات يجري تهريبها تنتقل من يد إلى أخرى. لا أذكر كم مرة جرى ريقي بوقع لون الفلفل، وهو يتوسط قطعة خبز في يد أحدهم، صرتُ لا أستحي من طلب شيء أشتهيه، وهل هناك مشتهى في ظلّ جفاف المعدة غير الفلفل الأحمر.

أحمد كان قد اشتهى كوباً من القهوة، لكنه عاد وظرفُ القهوة في جيبه ورصاصة اخترقت رأسه

أينما كنتُ أمرُ في المستشفى سواء في الخارج الأشبه بمحطة قطار في رمسيس، حيث الباعة من كلّ صنف ولون، كنتُ أسمع الشباب ينادونني "خالتو أو عمتو"، في البداية كنت أنظر شزراً لمن يخاطبني بهذه الألقاب، خاصة أن منهم شباباً قد أكبرهم بعقد من الزمن لا أكثر يخاطبونني احتراماً بهذه الألقاب، لذا كنت أتغاضى قليلاً وأُستفَز كثيراً، لكن الردّ الحاد كان على من يخاطبني يا حاجة: هل هززتُ لك في سريرك؟ أم هل تراني أمشي على عكازين؟ الحرب يا حبيبتي أفقدتني رؤية غزّة كما أتمنى لكني لن أسمح لها أن تضيف إلى عمري أعماراً لا تخصني.

كنا نظن حالنا سيئاً يرثى له بسبب كثرة الأطفال والعائلات في الطابق. لكنني كلما نزلت طابقاً، اكتشفتُ كم نحن محظوظون بهذه الإقامة، الكارثة الأكبر تكمن في الطابق الأول، ليس فقط بسبب تكدّس العائلات فوق بعضها إلى درجة أن "بيت الدرج" -كما نطلق عليه هنا- وهي المنطقة الضيقة تحت مصطبة الدرج، صارت مأوى لعائلة تربو على عشرة أفراد، الأقسى هنا أن نزلاء هذا الطابق من النازحين هم من يتلقون الإصابات الواردة للمستشفى من اشتباكات بالخارج أو الناجين من قصف وهذا هو الرعب الحقيقي، حينما يغطي الرماد وآثار القصف الوجوه، تتشابه الملامح إلى حدّ مرعب خاصة ملامح الأطفال، كم مرة صاح أحدهم هذا حفيدي، له الضحكة نفسها، هذا ابن اخي عرفته من قميصه الذي كان لي. هذه عيون ابنتي وتلك أظفارها، بعد قليل من التفحّص وتقليب الشعر والأظفار واليدين والألبسة كنت تسمع تنهيدة ارتياح يعقبها في كثير من الحالات بكاء صامت أو نحيب.

أما عن سكان الطابق السادس -وهو طابق ما زال في طور البناء- من أنجب منهم، فقد كسِب ذرية كما نقول هنا، الحياة. هناك رعب مجسد، السماء فوقك لكنها سماء غير السماء، سماء سكان الطابق السادس لا تضيئها النجوم ولا يزينها القمر، بل تنيرها القنابل الفوسفورية والحرارية، التي يجري إطلاقها كإنارة قادمة من الجحيم. هم لا يسمعون أصوات القصف فقط، لكنهم يرونه ويشمونه كل لحظة في الليل أو النهار، ولا شيء يحميهم من الانزلاق من طرف السطح غير عمدانٍ من الحديد تقي الساكنين، وغالبيتهم أطفال ونساء، خطر السقوط، ينامون على قليل من الفراش، حيث لا يوجد بذخ هنا ولا رفاهية قد يمتلكها المقيمون في الطوابق السفلية. لم أفهم للحظة كيف يمكنهم ممارسة الحياة هناك في "الطل"، حيث تصحو عيونهم على الدمار، على العمارات المقصوفة، والبيوت المهدمة، والشوارع المحفورة بفعل القذائف، التي تتساقط كالذباب على غزة. يبدو أن غزة هي قطعة حلوى كبيرة، وإلا لماذا يسقط فوقها كل هذا الذباب؟

يحب الأطفال الحلوى كثيراً. تعلمين هذا يا حبيبتي فأنت منهم، والأطفال هنا ترضيهم أي قطعة حلوى حتى لو انتهت مدة صلاحيتها كحال كثير من المساعدات التي وردتنا في المستشفى، لكن الحلوى على ندرتها وقلّة جودتها بدأت بالتناقص تدريجياً من أيدي الباعة أمام المستشفى حتى أصبحت عملة نادرة، يلزم الأطفال الكثير من الطاعة كي يكسبوها كمكافأة، لا ضير في ذلك فقد استعاض الناس بساندويتشات المربى والحلاوة الطحينية كنوع من الحلى، يحضر حينما يحضر الخبز، لكنه لا يغيب عند غيابه.

كنا نحو خمسة عشر ألف نسمة في مباني المستشفى المتلاصقة، نزيد وننقص حسب القصف في الخارج والتهديدات المستمرة بقصف المستشفى على رؤوسنا، كنا قرية صغيرة موزعة على طوابق وأبنية، غرباء كنا وأقرباء وأحبة صرنا، لتمضية الوقت كان الجميع هنا يتعرّف إلى من يتوسم فيهم صفات مشتركة له، ولطريقته في الحياة، لكن الأمر لا يمنع أن تصاحب أشخاصاً لم تكن تظن أن هناك مكاناً يمكن أن يجمعكم. الحال في المستشفى وضعنا على خط امتدّ على استقامته طويلاً، نقف عليه باتجاه عقارب الساعة، وكلنا نلف معها، جيراننا لحسن الحظ كانوا ممن يسكنون حيّنا "تل الهوا"، لكن المعرفة كانت في الأوضاع الطبيعية تقتصر على معرفة الرجال بالرجال والنساء -إن كان هناك تبادل زيارات- بالنساء.

لكنه ليس من الشائع في مدينة محافظة كغزّة، تتكتم على عريها الداخلي بملابس فضفاضة، أن يجلس الشباب جنباً إلى جنب جوار البنات، فما بالك بالحديث معهم والنوم متجاورين، لا يفصل بينهم وبين الشباب لا ساتر ولا ستارة.

لا أعرف الكثير عن كل واحد منهم، لكن المعايشة، على مدار شهر إلا بضعة أيام، تعلّمك الكثير عن البشر، خاصة وأنت تراهم كما في البيت دون رتوش أو أقنعة خارجية لحفظ ماء الضعف أو الانكسار، أو الشر في بعض الأحيان. بالمناسبة هل أخبرتك من قبل يا لمار بأن الأيام هنا لا تجري مثلما تجري في الخارج، وأن الوقت هنا مطاطي، يمتدّ ويتقلص حسب أحداث النهار، ظننتُ سابقاً أننا قضينا في المستشفى ثلاثة وعشرين يوماً لكنها كانت تزيد على ذلك، دخلنا المستشفى في الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين الأول، وغادرناه في الثاني عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، يومها حمل عمك محمود ابنه أحمد البكر الوحيد على أكتافه، وذهب ليدفنه تحت القصف. أحمد الذي كان قد أتم للتو عامه الحادي والعشرين كان قد اشتهى كوباً من القهوة، لكنه عاد وظرف القهوة في جيبه ورصاصة اخترقت رأسه، هل قلت لك كيف سال خيط من الريق من طرف فمه؟

* شاعرة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون