أنا سعيد جدًّا لأني لم أختنق بعد، حدّ الموت، مع أني أتكوبس كلّ ليلة، ولقد أصحو في الواحدة، وأكون نمت في الحادية عشرة، فلا أعود للفراش أبدًا، بل وتنتابني الرغبة في الخروج من المصحّة، فوراً، كي أذرع شوارع مدينة سانت نيكلاس، في مثل هذا الوقت المتأخّر، لأجل المزيد من الأكسجين، إنما هيهات.
ذلك أن بوّابة مخيّم اللاجئين عليها حارس، وهو سيمنعك بالقوّة من الخروج، كي تتنفّس قليلًا من الأكسجين البارد في عراء الشوارع الخاوية. ولو أصررتَ، لاستدعى لك الشرطة، من مركزها القريب جدًّا على أوّل شارع كاستيل استراد.
إن حياتي لرمادٌ هائل، في كلّ حين مستجَدّ، بعد أن قاتلت في الزمانات عدويّ، ولم أستطع ثنيه عن كل الشرور. هل نحن بالفعل مَن عانينا من أجل ذلك النضال، كومةَ سنوات في المنفى؟ هل مِن نجاح أعمالي، أخيرًا، أن أنام بلا كوابيس؟
لكنّي أشعر بألم شديد، ببلاطة على الصدر، بانغلاق مجرى التنفس، كلّ ليلة. هل ألمي الشديد هو أن بلادي تتدهور؟ الكفاح المسلّح كحقّ من حقوق مقاومة المحتلّ، لا يجد حتّى صدىً عند يساريي أوروبا، التي أعيش لاجئاً فيها.
أفكّر فيهم وأزفر: إنهم مَن يستحقّون كل هذا التصفيق
أصدقائي غالبهم مات، بحكم السنّ والمرض. حتى الجُدد منهم، في المرحلة الكتالونية والإسبانية: رودولفو وباكو وجوسيب، وأوروندو وخوسيه، بيدرو وفاليريا وكاميران، ألبا وألكساندرا وإليخاندرا، وإيمّا، وهارولدو، الذين ضحّوا بتعبهم كي يساعدوني، هم غائبون عن العين الآن، بحكم تواجدنا في بلجيكا، في الجانب الفلمنكي المتجهم. حياتهم، لم نعد على اطّلاع بها.
وفي الليالي الصعبة، تعودنا صور الماضي. مَن تعرّضوا للتعذيب الوحشي في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم، في كلّ من الضفة والقطاع. واليوم، هم صامتون وصافنون ولا يأكلون جيّدًا، لأنه لا يمكنهم رؤية انتصار أعمالهم النبيلة، وسط عالم شرّير مصنوع من دهن الخنزير.
وعندما أفكّر بهم، على بعد خمسة آلاف كيلومتر جغرافي، أحسّ بأسى يشمل كلّ الكوكب. أفكّر فيهم وأزفر: إنهم مَن يستحقّون كل هذا التصفيق، لو كان ليديّ عادة التصفيق ـ ولو على فاشوش ـ إنما هيهات؟
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا