أعاد اللغوي والباحث والمحقّق المصري رمضان عبد التواب (1930 - 2001)، الذي تحلّ اليوم الأحد 21 من شباط/ فبراير ذكرى ميلاده، قراءة التراث اللغوي وفق مناهج اللسانيات الحديثة، من دون أن يغفل ما وضعه القدامى من أفكار ومفاهيم لا يزال بعضها قابلاً للتجديد والبناء عليه، موظّفاً معارفه المتعددة في اللغويات المقارنة والصناعة المعجمية واللغات السامية ومدارس تحقيق التراث الأوروبية، مع امتلاكه مقدرات الاستنتاج والاستدلال في ربط الجديد بالقديم. في كتابه "لحن العامّة والتطور اللغوي"، الذي صدرت طبعته الأولى عن "دار المعارف" عام 1967، قارب عبد التواب التغيّر المستمر في اللغة العربية بفعل اجتماع عوامل مختلفة مثل انتقالها من الأسلاف إلى الأخلاف، وتأثرها بلغات أخرى، وسياقات اجتماعية ونفسية وبيئية، ولأسباب تتعلّق بما يُنتج من أدب، إلى جانب التقدم العلمي والحضاري بما يجلبه من تأثيرات.
ويرى عبد التواب أن "مهمّة عالم اللغة في العصر الحديث ليست تقييم اللغة، والحكم لها أو عليها، بل مهمته دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها دراسة وصفية، محاولاً تقرير الواقع، والكشف عن السرّ الذي يكمن وراء هذا الواقع"، مستنداً في رؤيته لبحث تطوّر العربية إلى أن اللغة لا تسير على نحو الصدفة المطلقة، ولا تنتقل على ألسنة الناس على نحو عشوائي، بل تحكمها "قوانين تكاد ترقى إلى مكانة القوانين الطبيعية ثباتاً وقوة، ولا يعني جهلنا بهذه القوانين في بعض الأحيان أنها غير موجودة، ومهمة العلم هي البحث عن هذه القوانين، يكتشفها ولا يخترعها".
تتطوّر اللغة من لحْن العامة وانحراف لهجاتهم
يطرح الكتاب تساؤلات أساسية مثل: كيف تكوّنت العامية؟ ولماذا تكوّنت؟ وماذا يُعنى بكلمة العامية؟ وماذا يُعنى بكلمة الفصحى؟ وما المقاييس التي تخص أحكامنا لها في الحالتين، وهل يتحدث العامة بكلامهم كيفما اتفق دون قاعدة أو قانون؟ وما السرّ في انحرافهم عن الفصحى؟ ولكن هل كان اللحن يعني الخطأ في اللغة؟ يوضّح صاحب كتاب "في قواعد الساميات- العبرية والسريانية والحبشية" أن الأمر استقّر على هذه الدلالة في مرحلة متأخرة، حيث شغَل الحجاج بن يوسف الثقفي النحاة على مرّ قرون في شرح بيتٍ للشاعر مالك بن أسماء يقول فيه: منطقٌ صائب وتلحن أحياناً وخير الحديث ما كان لحناً"، والذي رأى أن اللحن لا يفيد الخروج عن الصواب، إنما هو إشارة إلى براعة في اللغة.
ويوضّح أن اللحن احتمل لدى العرب ستّة معانٍ هي: اللغة أو اللهجة، والتطريب وترجيع الصوت، والفطنة والفهم، والتعريض والتورية، والمعنى والفحوى والمذهب والطريقة، قبل أن يستقرّ اللغويون القدامى والمحدثون على اعتباره مخالفة العامية للفصحى في الأصوات، أو في الصيغ، أو في تركيب الكلام وحركات الإعراب، أو في دلالة الألفاظ. يورد الباحث أمثلة عديد عن حدوث الانقلابات الصوتية نتيجة التأثر باللغات القديمة كالسريانية، أو العلّة في لفظ القاف همزة حيث استخشنها أهل القاهرة ثم سادت لدى العامة وانتقلت إلى مدن مثل دمشق والقدس بحسب المستشرق الألماني جوتهلف برجشتريسر، أو نتيجة لأخطاء في السمع كالفوم والثوم.
أهمّ ما يدرسه عبد التواب في كتابه هو العلاقة بين اللحن وتطور اللغة، حيث إن هناك قوانين عديدة تحكم لفظ الكلمات مثل التماثل والتخالف، وأبرزها نظرية السهولة والتيسير والتي تفترض أن اللغة تحاول التخلّص من الأصوات العسيرة في كثير من الأحيان مثل يُوم بدلاً من يَوْم وبيِت بدلاً من بيْت، ومنها اندثار الأصوات الأسنانية في اللغة وهي الذال والظاء والثاء كقول دهب وزكر بدلاً من ذكر وضلّ محل ظلّ، والقلب المكاني في ملعقة بدل معلقة وجواز بدل زواج.
كما يبيّن صاحب كتاب "فصولٌ في فقه اللغة" قوانين تطور الدلالة مثل استخدام مفردة العيش بدل الخبز والحريم للدلالة على النساء، أو كيف حلّت "كماش" الفارسية وقُلبت الكاف قافاً لتدل على النسيج وتحلّ محلّ كلمة قماش التي كانت تعني أراذل الناس، وكيف قُلِب ترتيب الجملة "ضرب محمد علياً" لدى العامة لتصبح "محمد ضرب علي". ومن خلال دراسته التطبيقية لمئات الأمثلة، صاغ عبد التواب العديد من المفاهيم والمصطلحات التي يستخدمها الباحثون في دراساتهم اللغوية اليوم، ومنها الركام اللغوي للظواهر المندثرة، وانكماش الأصوات المركبة، وانحلال الصوت المزدوج، والحذلقة اللغوية، والبِلى اللفظي، والاشتقاق الشعبي، وغيرها.
افترض أن اللغة تحاول التخلّص من الأصوات العسيرة
ويشير عبد التواب إلى مسألة مهمّة تتعلّق بعدم إضافة أحد من اللغويين العرب القدامى - في ما عدا الأزهري وابن جني - إلى ما جمعه علماء القرنين الأول والثاني الهجرييْن من مادة جديدة في معاجمهم، إذ اقتصرت جهود اللاحقين على تنظيم ما جمعه أسلافهم، ولم يحاول أحد منهمّ أن يدوّن ملاحظاته على الفروق بين اللغة القديمة وبين لغة معاصريه، وكيف كان ينطق معاصروه لفظة ما في أحاديثهم اليومية، ما يعني أنهم لم يعيروا تطوّر اللغة التفاتاً، بل كان همّهم تدوين اللغة القديمة فقط من أجل إعادة الخارجين عن الفصحى إلى حظيرتها، ولم يكن اللغويون معنيين بما تقوله العامة في ذلك، إنما انصب تركيزهم على المثقفين الذين يتسرّب حديث العامة إلى لغتهم.
يعود عبد التواب إلى عشرات المؤلّفات في التراث العربي والعصر الحديث حول اللحن، مشيراً إلى أنها جميع ما اكتشفه من مصادر حتى اليوم، مع تصحيحه لأخطاء العديد من المستشرقين والباحثين العرب الذين أوردوا عناوين كتب تراثية في اللحن وتبيّن في بحثه ألّا صلة لها بهذا الموضوع، أو تصحيحه لأفكار وردت لدى هؤلاء في تناولهم لتلك الكتب. ويوضّح صاحب كتاب "العربية الفصحى والقرآن الكريم أمام العلمانية والاستشراق" (1998) أنه لم يصلنا شيء من مراحل تطوّر اللغة العربية، غير أنه يمكن الاستدلال على ذلك من خلال مقارنتها باللغات القديمة، فنعثر على مفردة "ليس" التي ركّبها العرب من "لا" و"أيس" التي تعني يوجد في اللغة الآرامية، لتصبح معناها لا يوجد، كما يقارن بين الفعل الأجوف في لغة ما يسمى "العصر الجاهلي" وما وصل إلينا: حيث تحوّلت الأفعال: قَوَلَ وبَيَعَ ودَعَو إلى قال وباع ودعا.
ويرى أن الظاهرة اللغوية الجديدة لا تمحو الظاهرة اللغوية القديمة في يوم وليلة بل تسير معها جنباً إلى جنب مدة من الزمن، ومنها تطوّر صيغتي الفعل تفعّل وتفاعل إلى اتْفَعل واتْفَاعل في وقت نزول القرآن الذي يشتمل على هاتين الظاهرتين القديمة والجديدة سوية كما في الآية: "لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ". ويشير عبد التواب إلى ما قاله ابن جني في كتابه "سرّ صناعة الإعراب" من أنَّ الظاهرة اللغوية القديمة قد تبقّى منها أمثلة تعين على معرفة الأصل، وهو ما يطلق عليه "الركام اللغوي للظواهر المندثرة في اللغة"، ومنها قول الشاعر "حتى إذا ما أَمْسَجَتْ وأًمْسَجا" وهو يريد أمسى وأمست، رغم أن ابن جني لا يريد أن يعترف بالأصل القديم لهذه الظاهرة في الواقع اللغوي، غير أنه عثر على مثال من "الركام اللغوي" اضطر إلى الاعتراف به، بما يعني أن اللغة العربية تتطوّر من لحْن العامة وانحراف لهجاتهم في جانب من جوانب تطورّها.