استمع إلى الملخص
- ينقسم إلى ستة فصول تغطي فترات تاريخية من الحقبة العثمانية إلى الأحداث الحديثة، مع التركيز على تأثير الأحداث مثل وعد بلفور والاستيطان على المشهد الجغرافي والسياسي.
- يهدف إلى تبسيط النزاع للجمهور الفرنسي، مشيرًا إلى أن الخرائط قد لا تعكس معاناة الفلسطينيين، ويقترح اللجوء للهيئات القانونية الدولية لحل النزاع.
الكلُّ في الأوساط الأوروبية يسعى إلى فهم الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كما لو كان أُحْجِية. "نِزاعٌ" استعصى على الجميع إدراكه رغم بساطته الأُولى التي لا ينكرها إلّا المكابرون: أراضٍ احتُلّت بالقوة العسكرية التي وفّرتها دول أوروبا وأميركا، ولا تزال، على حساب شعبٍ أعزل يعيش على مساعداتٍ زهيدةٍ يُلقيها حلفاء منقسمون ضِعافٌ. وكلّ ما قيل وما يقال "أدبيات" و"شبه تاريخ" يتصنّع الباحثون أشْكَلته.
ومع ذلك، فهذا الذي قيل ويقال لا يكفي حتى يفهم الناس، هنا في فرنسا، مفاصلَ هذا الصراع وعوامله ونتائجه. لذلك، لم تتوقّف الكتابات منذ عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 عن العودة الظمأى لهذا النضال واسترجاع منعطفاته الحاسمة. وآخر ما صدر في هذا المضمار كتاب بعنوان "فلسطين إسرائيل: تاريخ مرئي"، عن "دار سوي" في باريس، وهو من تأليف الباحثَين الفرنسيَّين فيليب ريكاسوفيتش ودومينيك فيدال، أحدهما متخصّص في الجغرافيا والآخر صحافي يعمل على القضايا الجيوسياسية. ويتميّز بإتاحة قراءة جديدة لهذا الصراع على ضوء عشرات الخرائط الحقيقية والمُتخيّلة التي أُنجزت حول هذه المنطقة الساخنة من العالم.
لم يتناولا عمليات التهجير والإكراه على بيع الأراضي
لنذكر أولاً أن هذا الاعتماد على الخرائط والتصاميم المرئية، ومنه عنوان الكتاب، قد أصبح في الفترة الأخيرة مفتاحاً لفهم ما يطرأ خلال حرب الإبادة. تعتمدها تقريباً كلّ نشرات الأخبار لشرح ما يجري من تحوّلات مُتسارعة، فالخرائط غير ثابتة، تَصنعها التوغّلات والانسحابات المستمرّة. ومن هنا جاءت فكرة الكتاب الذي يستعيد التاريخ من خلال الخرائط القديمة التي رُسمت منذ نهاية القرن التاسع عشر ضمن المشروع الصهيوني، إلى جانب عرض أهم وثائق الأرشيف التي صيغت وقتها لتسويغ الاحتلال التدريجي وإعطائه بُعداً دبلوماسيّاً دوليّاً، مع أنه، في الحقيقة، ثمرة تواطؤ بريطاني سرعان ما تعزّز بدعم فرنسي وأميركي لتثبيت هذا الكيان وإهدائه مفاتيح التفوّق العسكري والدبلوماسي للانتصار على جيرانه العرب. وقد انتصر فعلاً في كلّ الحروب التي خاضها ضدّ هؤلاء الجيران فسارع بعضهم إلى التطبيع معه.
ينقسم هذا الكتاب إلى ستة فصول، ترتكز جميعها على مبدأ الخريطة مفتاحاً لفهم ما طرأ في التاريخ من أحداث وتحوّلات. فقد خُصّص الأول منها لزمن الإمبراطورية العثمانية والبريطانية، والثاني لحقبة الاحتلال البريطاني التي تسمى تضليلاً "انتداباً"، والتي أُطلق خلالها "وعد بلفور" عام 1917. وانتهى هذا الطور بنهاية الحرب العالمية الأولى ليبدأ عصر جديد "من حرب إلى حرب" حتى سنة 1956، ونشأة منظمة التحرير الفلسطينية. كما يركّز الكتاب على ما حصل بعد حرب 1967 من عمليات استيطان لم تتوقّف منذ ذلك التاريخ إلى يوم الناس هذا، حتى في ظلّ حرب الإبادة، بل بفضلها وقد انشغل بها العالم دون أن يتحرّك فعلياً لإيقافها. أمّا الفصل الأخير فخصّص لما جرى خلال العقدَين الأخيرَين من تطرُّف مُجرمي "إسرائيل" ولما خاضوه من حروب غير متكافئة، لينتهي الكتاب بنقطة حول "الألم الذي لا يُقال".
وقد ركّز الكتاب على بعض الأحداث الجزئية مثل مجزرة الطنطورة 1948 فضلاً عن تسليط الضوء على أبرز الفاعلين في هذا الصراع، مثل الولايات المتحدة، الشريك الفعلي العسكري والسياسي لإسرائيل، ومنظمة التحرير الفلسطينية، رغم ضعف تمثيلها الشعبي وتعاونها الأمني مع سلطات الاحتلال، في كثير من الأحيان ضدّ شعبها في الضفّة وغزّة.
وهكذا، فالغاية من هذا التأليف "توضيحية"؛ لكن لا يمكن أن نفهمها إلا إذا استحضرنا مساحات الجهل الواسعة التي يقبع فيها عقل الجمهور العريض من المتابعين الفرنسيين، حيث لا تعدو فلسطين أن تكون مجرّد اسم بعيد لا مرجعَ له. وفي أحسن الحالات، تُحيط به معلومات عامة تغلب عليها السردية الإسرائيلية المُهيمنة بسبب وسائل الإعلام ومصادر المعرفة ودور النشر والدعاية المستمرة.
ولذلك أدلى المؤلّفان بدلوهما في تبسيط هذا النزاع. الغاية حميدة، لكنّها لا تخلو من مغالطة، حيث يقع اللجوء إلى التاريخ، بما في ذلك السحيق منه، لتفسير الحاضر: مفاتيح الحقيقة معروفة، لا داعي إلى تكلُّف تعميقها، فهي كامنةٌ في التواطؤ الكلّي بين الغرب و"إسرائيل" من أجل تصفية قضيةٍ وإبادة شعب. ولتستمرّ كُتب التذكير هذه حتى لا يشقى العقل ويخفّ ألم الضمير.
ولهذه الخرائط المفصّلة فضيلة إظهار ما اقترفته يد الاحتلال من تحوّلات جوهرية على المشهد العُمراني الفلسطيني طيلة العقود الماضية، ولا سيما في القدس، وما اختطّته فيها من طرقات وجدران عازلة ومعابر مهينة، كجدار الفصل العنصري المقيت، وهو ما يفضح نيات الاحتلال في القضاء التدريجي على كلّ ما يمُتُّ إلى عروبة هذه الأرض وإسلاميتها من علامات، من أجل تهويدها بشكل كامل.
يحتكر الاحتلال إصدار هذه الخرائط ويسخّرها في طمس الحقائق
ولو قُوِّض لهذه الخرائط أن تُصادف ضميراً حيّاً لكان أكبر شهادة إدانة لمخطّطات الاحتلال في الاستيلاء على أراضٍ تعود ملكيتها إلى السكان الأصليّين منذ قرون. لكن من المؤسف أن لا يتوسّع المؤلّفان في استعراض الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى هذا الواقع الجغرافي المتجدّد باستمرار، وهي عمليات التهجير والإكراه على البيع والتهديد التي مورست سرّاً وعلانية على الأهالي الفلسطينيين منذ مطلع القرن الماضي، ولا تزال تُمارس، يشاهدها العالم يوميّاً دون أن يرفّ له جفن.
وعلى كل، تؤكّد هذه الخرائط عدم جدّية الاحتلال في حلّ الدولتين، ولا حتى مجرّد الإبقاء على بعض المناطق القابلة أن تقوم على أراضيها أُسس جغرافية لأيّ دولة مستقبلية. قطّعوا أوصال فلسطين وفصلوا بين أنحائها، مع أنها مساحة محدودة، حتى لا ينهض عليها أي كيان جادّ قابل للحياة يحتضن ملايين السكّان في الداخل والشتات. كأنهم حكموا على وليد أن يكون أقطعَ أمام ناظرَي أُمّه العاجزة.
كما تفضح هذه الخرائط احتكار سلطات الاحتلال إصدار هذه الوثائق، مثل الاحتكار الذي تمارسه وسائل إعلامها في بث الأخبار وتزييفها. احتكار متسلط يسمح بتسريب مشاريع مستقبلية لضم بعض المُربّعات والكُتل ضمن مجهود خبيث لاقتطاع مستوطنات جديدة وطمس معالم البلدات الأصلية لإخفاء ما تنطوي عليه من آثار عربية - إسلامية. كما يشي هذا الاحتكار بعجز السلطات الفلسطينية عن تقديم أي بديل خرائطي يصمد أمام الوعي العالمي أو على الأقل عدم قدرته على منافسة الخرائط الأخرى.
والأمل في هذه المقاربة أنْ تسمح الخرائط، رغم أنها من إنتاج الاحتلال أساساً، بإطلاق نقاش جادٍّ حول مصداقية مثل هذه الرسوم في شرح النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي وحول إسهامها أو عدمه في إظهار وقائع الأرض وانتماءات السكّان ومعاناتهم. فهي لا تُظهر إلّا نهاية المسار، نتيجة إبعاد تامّ أو مأمول للأهالي عن قطعة أرض، من دون الكشف عن حجم المآسي الناتجة عن ذلك الإبعاد. ترسّخ الخرائط تحوّلاتٍ تمّت ولا تسجّل أوجاعَ الاقتلاع الذي يعيشه الأهالي خلاله.
يخلص المؤلّفان، في ضرب من السذاجة قد نشاركهما فيها، إلى أنّ الحلَّ يكمن في اللجوء إلى الهيئات القانونية الدولية مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية في لاهاي والمحكمة الجنائية الدولية من أجل تسوية هذا النزاع. وقتها ستكون هذه الخرائط أدواتِ دفاع ومستندات مرافعة، أدلةً على ما لا يحتاج إلى دليل: "الاحتلال استيلاء سيطرة قوة عسكرية على إقليم أو منطقة تابعة لدولة أُخرى دون موافقة الدولة صاحبة السيادة". وأُضيف: "صاحبة التاريخ والذاكرة والفن والأهازيج..." التي أهملها كلٌّ من اتفاقية لاهاي 1907 واتفاقية جنيف 1949.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس