زاهر الغافري.. أن نمتلك لغة للحياة

24 سبتمبر 2024
إلى هنا انتهت المغامرة إلى الأبد
+ الخط -

نتلقّى خبر موت زاهر الغافري (1956 - 2024) ولا نستوعبه. كان الشاعر العُماني يبثّ من مالمو، التي انتقل إليها، رسائل في فيسبوك. صُور ودائماً صُور ودائماً شراب. كان يبدو وكأنه في احتفال مستمرّ، احتفال بالشراب خاصة. لربّما خطر لنا عند ذلك أنه مسافر دائماً ويعيش كمسافر، كلّ ساعة لها حساب، كلّ يوم وفيه مناسبة. يبدو وكأنّه يتنزّه. العالَم تقريباً قريته، وهو يظهر في أمكنة شتّى ودائماً مع كأس. أذكر أنني زرته في بيته في عُمان، كان يطلّ من عُلوّ على البحر، أمضينا سهرة حافلة. أذكر يوم أخبرنا في بيروت أن سركون بولص يحتضر. 

ما كان ليخطر لي أن زاهر، في كلّ نزهاته تلك، كان هو الآخر يحتضر. الآن أفهم أنه في سكراته تلك، في لعبه بالكأس، في حياته التي تبدو لعباً وأسفاراً، كان هو الآخر يحتضر. أنه من وقت طويل يُعاني من تليّف الكبد، وأن فرحته بالكأس كانت كأحد عناوينه "فرحة الموت". أنه حين ينشر صوره تلك مبتهجاً بالشراب، خَلِي البال كما يبدو فيها، في وليمة مثابرة لنفسه ومع نفسه. كان زاهر الذي علمنا الآن أنه مصاب بتليّف الكبد، الذي يغلب أنه من أثر الشراب، ملحاً على أن يبقى سادراً فيه. لعلّه التحدّي، لعلّه الإهمال واللّااكتراث. لعلّه في الغالب انتحار أو شبه انتحار. هكذا يترك لنا زاهر ضحكته وإدمانه ولعبه الخاص، كما يترك لنا شعراً، نزداد تأكُّداً من قيمته ومن قوته.

اكتشافه سيردُّنا إلى قراءة أُخرى لشعره، ما كنّا لنقوم بها من قبل

رحيل الغافري يدعونا إلى أن نقرأه مجدّداً لنجده مستحقّاً، بل لنجده شاعراً حقيقياً، شاعراً له قصيدته وله عالمه وله جملته. ما كان يخطر لنا أيضاً، أنه في نزهته تلك، في احتفالاته كان يُفكّر بالموت، يُفكّر غالباً في موته الخاص، يقوله بالحرف والاسم منتظراً له، كأنه وإيّاه على موعد.

"هل كان يبنغي علي
كل تلك السنوات
كي اكتشف أنني صيحة عائدة من الموت".

"صيحة عائدة من الموت" ليس الموت هنا حاضراً وحده، الشعر هو الذي يحضر أيضاً. الشعر بكل سريرته، بكل غوره، ببرقه ولمحه وغيبه. لن نبتعد حتى نقرأ "إلى هنا انتهت المغامرة إلى الأبد"، هكذا نقع على ما يشبه السيرة، اعتراف يوازي ذلك الغياب الخاطف لزاهر الغافري. نقف أيضاً عند عنوان "هذيان نابليون، لعلّنا سنزداد جمالاً بعد الموت"، ونستعيد أيضاً ما يُشبه أن يكون مقولة "ربما هو الشعر ربما هو الموت". ما كنّا نتوقع أن نجد هذا القدر من اللعب مع الموت، لكن اكتشافه سيردُّنا إلى قراءة أُخرى للغافري، ما كنّا لنقوم بها من قبل. لا نبالغ إذا عددنا الغافري بين شعراء المرحلة المهمّين. إننا نكتشف، بدون جهد أنّ له لغته. إننا، ونحن نطوي القصائد واحدة بعد الأُخرى، نظلّ في شعور بأننا نقرأ نصاً مُفعماً وممتلئاً، نصاً له من الداخل موسيقاه وإيقاعه، له جملته الناصعة بقدر ما هي موحية، بقدر ما هي سيّالة، بقدر ما هي عميقة في شفافيتها. 

ذلك العُمق الذي يملك، في داخليته، إيعازات وأفكاراً، أو أشكالاً للفكرة، أو غناء يتململ فيه التأمّل والسؤال، ويجري بقدرة اللغة على أن تضمر هواجس وإشارات، وعلى أن تحمل في إيقاعها رؤى ومفارقات ونقائض. في ذلك يتّسع القول ويتعدّى الشاعر والصوت الواحد، تتعدّد الأصوات وتتعدّد الرُّؤى. هُنا نعثر على لغة كاملة تتكلّم، أبعد من الشاعر وأبعد من الكلام، وترعف بالأسئلة والإشارات. إنها لغة وحدها، عالم وحده، وغناء متكامل وفكر داخلي. هكذا نقرأ زاهر الغافري، هكذا نُعيد قراءته. إنه شاعر يملك ما يُعمّده شاعراً، ما يجعله قادراً على خلق لغة وعالم، على ما يجعل غناءه سؤالاً وحيرة وتنازعاً داخلياً في مجموعاته "الصمت يأتي للاعتراف"، و"عزلة تفيض عن الليل"، و"أزهار في بئر"، و"ظلال بلون المياه"، أو ما كتبه في مجموعته الأخيرة: "آسف لأني تأخرت في المجيء، على الأرجح كنت في بهلاء، أنظر الى جمرة في فم الساحر".


* شاعر وروائي من لبنان
 

المساهمون