يُعدّ مفهوم الاجتهاد من أقدم المقالات في خطاب التشريع، أصولياً كان أم فقهياً، وهو من أكثر المقالات دوراناً في هذا الخطاب منذ تأسيس علم أصول الفقه في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري إلى اليوم. من هذا المدخل قدّمَت الباحثة التونسية زهية جويرو، أستاذةُ "الدراسات الإسلامية والدراسات الدينية المقارنة" في "جامعة منوبة" بتونس العاصمة، أطروحتَها المؤسِّسة لمشروعها المُقبل بعنوان "الاجتهاد الجديد في التشريع الإسلامي وقضاياه"، في "سيمنار" نظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة أوّل أمس الأربعاء.
لا يستند الاجتهاد الجديد إلى قطيعة مع التراث والشريعة. وقد بنت جويرو مرئياتها تبعاً لتحوّلات كبرى عبر التاريخ الإسلامي، أوجبت حركية مستمرّة للاجتهاد، وهي تقول إنّها، في كلّ كتاباتها، ظلّت تُؤكّد على مبدأ الاستمرارية، بل إنّها استبعدت في مشروعها الراهن "الاجتهادات" التي تدعو إلى القطع مع الشريعة لعدم إمكانية أن تكون - بحسب من يتبنّون هذه الأفكار - مَصدراً من مصادر التقنين في المجتمعات المُعاصرة.
رؤية داخل المنظومة
وعليه، فإنّ الاجتهاد الجديد، الذي تُنادي به جويرو، ينطلق من رؤية داخل المنظومة، ولكنّها لا تضمن أن تنتهي داخلها؛ أي قد تنتهي في كثير من الأحيان إلى مشروع للإصلاح والتجديد يقوم على تصوُّر للمجتمع ونظامه، مختلفٍ عن التصوّرات الكُبرى التي يَستند إليها التشريع الإسلامي، كما فسّرت. وانطلقت الباحثة من ولادة القواعد الأصولية للاجتهاد، مُشيرةً إلى ثلاثٍ أسّسها الشافعي، الأُولى تُفيد بأنّ الاجتهاد مُنحصر في ما لا نصّ فيه، والثانية تقول إنّه "ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلةٌ إلّا وفي كتاب الله دليلٌ على سبيل الهدى فيها"، متسائلة: "كيف يمكن أن نجد استخداماً للاجتهاد بين هذين الحدَّين؟".
أمّا القاعدة الثالثة، فترِد في تعريف الشافعي للاجتهاد، بأنّه هو القياس. ووفق ما ترى جويرو، فقد "جعلوا الاجتهاد منحصراً في ما عُدّ أصلاً من أصول التشريع، وهو القياس. وهذا الحصر ضُبط وسُيّج ضمن حدود كانت لها مبرّراتها ونظامها في القرون الأُولى، ولكن اعتباراً من القرن الرابع، سريعاً ما ستُصبح قيوداً حَدّت من إمكانيات الاجتهاد، ولعلّها أسهمت في ما يُعرف بغلق باب الاجتهاد".
النص والقياس
في تعقيبه على المحاضرة، قال معتزّ الخطيب، الأستاذ المشارك في "كلّية الدراسات الإسلامية" بـ"جامعة حمد بن خليفة" في الدوحة، إنّ مقولة "لا اجتهاد مع النصّ" استُخدمت في السجالات الحديثة من الخطاب السلفي والتقليدي في مواجهة الخطابات النقدية والمجدِّدة، لافتاً إلى نماذج مبكرة أقامت اجتهادها مقابل نصوص قطعية الدلالة، خاصّة عند الحنفية. وواصل القول بأنّ الشافعي لم يقصد حصر الاجتهاد بالقياس، مشيراً إلى ما قاله ابن الرفعة، وهو أحد مُحقِّقي المذهب الشافعي في القرن السابع الهجري، من أنّ الشافعي قال "الاجتهاد مثل القياس"، وليس كما نُقل "الاجتهادُ القياسُ"، بمعنى أنّه لم يَحصره، بل مثّل له.
ولكنّ الخطيب أورد، مع ذلك، مقولة الغزالي، وهو إمام كبير في المذهب الشافعي: "من قال الاجتهادُ القياسُ خطأٌ"، وهي مقولة كما يلاحظ الخطيب "ترُدّ على من فهم الشافعيَّ خطأً أو تردّ على الشافعي ذاته".
هذا النقاش بين الباحثة والمعقّب يفتح باباً يزعم الجميع أنّه لم يكن مغلقاً في عهد من العهود، ولكنّه، وفق مداخلة أحد الحاضرين، كان يختلف في سِعته من منطقة جغرافية إلى أُخرى، ومن نظام سياسي إلى آخر.
مقاصد الشاطبي
بمعنى ما، فإنّ الاجتهاد الجديد كان موجوداً، حكَمته تحوُّلات كبرى مثل الحروب الصليبية التي أتت على ذكرها زهيّة جويرو، وخسارة الأندلس التي تلتها فوراً محاكم التفتيش القاسية. وبالطبع هذه ليست التحوّلات الوحيدة التي تُنتج تصوّرات المجتمع الإسلامي لذاته، ولكنّها انعطافات تاريخية هامّة، قد تستدعي بعضها البعض كما جرى استدعاء الشاطبي، الذي سقطت مدينتُه الأندلسية، شاطبة، ووجد نفسه مسلماً تحت حُكم مسيحي، عند بداية القرن العشرين، حين كانت الدول الإسلامية واقعةً تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي.
الشاطبي لم يكن نبتاً غريباً، بل ورث عمّن سبقه من فقهاء أطلقوا منذ أواخر القرن الخامس الهجري "مسار مفهمة للمقاصد والتنظير لها"، وهي التي تُعرف اصطلاحاً بفقه المقاصد، في إشارة من جويرو إلى ما استشعره الفقهاء من عجز آلية القياس عن توفير الأحكام المناسبة لوضعيات جديدة، كالحروب الصليبية التي احتلّت أراضيَ إسلامية. هذا سياق تاريخي. لكن بالتوازي معه، هناك سياق معرفي تُلاحظه الباحثة، شهد "تعريب المنطق الأرسطي ودخوله مجال الخطاب الأصولي (الغزالي في "المستصفى في علم أصول الفقه" مثالاً)"؛ إذ تفطّن الأصوليون إلى ما في القياس من مشكلات، مشكلة التعليل، وظنّية الأحكام المبنية على القياس، ما أسهم في الدفع نحو التفكير في آليات اجتهاد جديدة من بينها القياس المنطقي وبناء الأحكام على المقاصد بدل بنائها على العلل. وأضافت أنّ مقالة المقاصد بلغت أوجها من مستوى المفهوم إلى النظرية مع الشاطبي، ملخّصاً ذلك في قوله إنّ من ثوابت القرآن والتشريع أنّ الله كان ييسّر دائماً. لكنّ اجتهاده، كما تقول، "صرخةٌ في وادٍ، كما كان العلّامة ابن خلدون المُزامن له أيضاً يصرخ في واد، لأنّ المنظومة الحضارية الإسلامية لم تكن مستعدّة لتلقّي هذا الفكر الجديد والتفاعُل معه".
منهجياتٌ جديدة
حين تتحدّث الباحثة عن الاجتهاد الجديد، فإنها تحاجّ بأنّ الدوافع تبتغي توسيع مجالاته وطرح منهجيات جديدة للاجتهاد، وإيجاد حدّ من التناسُب بين ثبات القواعد التشريعية التي ضبطتها المنظومة الأصولية من جهة، والتحوّلات العميقة التي بدأت تعيشها المجتمعات الإسلامية من مطلع العصر الحديث من جهة ثانية. وبمعنى زمني، هو جديدٌ في سياق الفكر العربي المعاصر، يَظهر في جملة من العلامات؛ منها إعادةُ النظر في مبدأ أنّ الاجتهاد لا يسمح إلّا في ما ليس فيه نصّ، وعلامة الجدّة الثانية التي تطرحها هي أنّ الاجتهاد ليس عملية مقايسة فرع طارئ على أصل معروف حكمه، وإنما يعمل على تجاوز تلك الحدود والضوابط التي سَيّجه بها علم أصول الفقه منذ العصر التأسيسي.
ووضعت الباحثة بنيَتين تحكمان الاجتهاد الجديد، الأُولى "بنية الترميق" ومقابلُها في الفرنسية Bricolage، وتقوم على أشكال من التصرّف المحكوم بغايات عملية نفعية في ما تتيحه المنظومة التشريعية الإسلامية من مصادر ومنهجيات وقواعد ومفاهيم بهدف إيجاد حلول للمسائل المستجدة وأجوبة مناسبة للأسئلة التي تطرحها التحوّلات الاجتماعية. والثانية: "بنية الخرق"، وتقوم على خرق الحدود والضوابط المفهومية والمنهجية والفلسفية التي سيّجت علم أصول الفقه من أجل إعادة بناء التشريع على قاعدة مفهومية ومنهجية وفلسفية جديدة وعلى مرجعيات موصولة بالمعارف الحديثة، حسب طرحها.
وخلصت زهيّة جويرو، أخيراً، إلى أنّ الاجتهاد الجديد عملٌ تأويلي بالأساس، يُبذل فيه الجهد من أجل اقتراح حلول مناسبة للمستجدّات ولآفاق الانتظار الجديدة، وحتى لخلفية المجتهد الفكرية ولقناعاته. هذا التأويل مقاصديٌّ يقوم على الاعتبار بمقاصد التشريع وليس بحرفية نصوص الأحكام، وهو أيضاً تأويلٌ تاريخي قائم على الوعي بتاريخية الظاهرة التشريعية، بصرف النظر عن طبيعة مصادرها، وهو تأويل قانوني يستند إلى مفاهيم القانون وآليات تأويل النصوص ذات الطبيعة القانونية، وقد يكون تأويلاً علمياً يستند، كما قالت، إلى بعض المفاهيم الرياضية والفيزيائية.