الكلام عن إسهامات الشاعرة والناقدة والمترجمة الفلسطينية سلمى الخضراء الجيوسي، التي رحلت عن عالمنا أوّل أمس الخميس في عمّان، عن خمسة وتسعين عاماً (على اعتبار أنها وُلدت عام 1926)، متفرّعٌ ومتداخِل بدقّة؛ حيثُ لا يمكنُ أن تفيه العُجالات الصحافية تمام حقّه، خصوصاً لو تحدّثنا عن شقّه الأكاديمي.
لكنّ ما يهمّنا في هذه السطور هو أن نحدّد ظاهرةً بعينها من مُحيط اشتغالاتها، وننظر في تناوُل الجيوسي لها؛ محاولِين، في الوقت نفسه، ألّا يؤدّي هذا التحديد الذي اخترناه، إلى تحجيم سيرة امتدّ إنتاجُها أبعد بكثير ممّا سنشير إليه. لذا نجدُنا معنيّين بقراءة صاحبة "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" (صدر بالإنكليزية أوّلاً عام 1977، ثم صدر بترجمة عبد الواحد لؤلؤة عام 2001) للمجلّات الثقافية خلال عَقدي خمسينيات وستّينيات القرن الماضي، وكيف نظرَت إلى دور الحركة الصحافية في ترسيم تيارات الحداثة الشعرية وتحديد خلفياتها.
ولمّا كانت الجيوسي في كتابها المذكور تُعالج هذه الظاهرة تأريخياً، فإنّها بالمقابل شحذت كلامها بالكثير من النقد، وهذه حمولةٌ لا بدّ من الرجوع إليها، لأنّها تُضيف إلينا - نحن المشتغلين في حقل الصحافة الثقافية - أيّما إضافة، كونها قراءة على حدود الأكاديمي والعام البَينِيَّة؛ ولأننا - إنّ جاز القول - امتدادٌ، بشكل أو بآخر، لهذا "التراث" القريب الذي أسهمت فيه، ولم تقتصر على نقده وحسب.
"مجلّتان طليعيّتان"، تحت هذا العنوان أفردت الناقدة باباً في مؤلَّفها المرجعي (915 صفحة) للوقوف على تجربة مجلّتَي "الآداب" و"شعر"؛ مقتصرةً في معالجتها التأريخية/ النقدية على هذين الاسمين اللذين يُنظر إليهما، في يومنا الراهن، كتجربتين مُكرَّستين في صدارة المشهد، كلّما أعدنا الحديث عن سيرة الحداثة العربية نقداً وشعراً.
صنع الجوُّ المتمدّن شخصيتها المُتحرّرة والنقيضة للتعصّب
تضع الجيوسي (خريجة "الجامعة الأميركية" في بيروت) اليدَ على الخلفية الاجتماعية التي كان يشهدها لبنان في تلك المرحلة؛ تقاطُعاتٌ عديدة، بدءاً من الرخاء الاقتصادي والحرّيات الاجتماعية، وصولاً إلى التنوّع في المؤسَّسات التعليمية والمَناعة ضدّ طغيان لون واحد من الاتجاهات الفكرية. كلُّ ما سبق جعل من بيروت - لا القاهرة - وللمرّة الأُولى في تاريخ العرب الحديث "مقصد المفكّرين العرب ومكانَ لقاءاتهم".
على ضوء هذه الأرضية رأت مجلّة "الآداب" النورَ عام 1953، على يد القاصّ والمترجم سهيل إدريس (1925 - 2008)، والذي تصفه الجيوسي بأنه "عميق الجذور في تراث الثقافة العربية والإسلامية". وبهاجس المؤرّخ المشغول بالسرديات الكُبرى، أوّل ما تلتفت صاحبة "القدس مدينتي" (2005) إلى الإطار الخطابي للمجلّة، والتي سيكون لها إسهامات بارزة ضمن أعدادها، كما تُنوّه بانشغال المجلّة بـ"الخطّ المُلتزِم والقومية العربية"، وتعود إلى عدد كانون الثاني/ يناير 1955 من "الآداب"، الذي ترى فيه "أفضل مجموعة من المقالات عن تاريخ الشعر الحديث في أغلب الأقطار العربية".
لكنّ الجيوسي تعمّق عملية التأريخ في كتابها، مُشيرةً إلى ما استوعبته المجلّة من تقنيات الحوار، والتي من شأنها أن تدلّ أيّ عمل ثقافي إلى طريقة يسمع فيها صدى كلمته. ومن هنا اقترحت المجلّة - حينها - أن تُخصص باباً نقدياً في كلّ عدد جديد، لملفّات وموادّ العدد السابق؛ بالإضافة إلى تشجيعها المواهب والتجارب العربية الجديدة، وتمكينها من النشر عبر اعتمادها المُراسلة التي كانت طريقة ناجعة. وبتضافُر كلّ هذه الأسباب، تحوّلت المجلّة، وفقاً للجيوسي، إلى "صوت المرحلة".
من جهة أُخرى، لم تتردّدِ الجيوسي في نقد المجلّة، لتراخيها أحياناً في نشر ما وصفته بـ"الميوعة العاطفية"، وتراجُع مستواها النقدي مع ما انتاب أداءها من "مناقشات غير عِلمية، ومقالات تكشف عن تحيُّز واضح أو عدواني، ضدّ شخصية ما، أو أخلاق كتّاب وشعراء آخرين".
نبقى مع بيروت، حيث صاغت سلمى الخضراء بعضاً من وعيها الثقافي، والذي أسّست لَبِناته أوّلاً في كنف أسرة مثقّفة ومهمومة بالشأن العام، وبتأثير مدينتَين أساسيّتين في تكوينها هُما القدس وعكا. وربّما خير تصوّر يُعينُنا على فَهْم الجوِّ المديني في فلسطين آنذاك، هو ما ذهبت إليه الباحثة الفلسطينية منار حسن في كتابها الأخير "المغيّبات: النساء والمدن الفلسطينية حتى سنة 1948" (2023)، والذي تنقُضُ فيه "المخيال الريفي" وصورة "فلسطين الفلّاحية"، لصالح سردية أكثر تمدُّناً، لم يقطع وتيرتها إلّا الاستيطان الاستعماري المتمثّل في نكبة عام 1948.
بهذا يُمكننا القول إنّ الجوّ المتمدّن هو ما صنع شخصية الجيوسي العِلمانية المُتحرّرة والنقيضة للتعصّب، وهذا ما استعادته في أكثر من محطّة خلال مسيرتها الحياتية. ونذكر منها على سبيل المثال أثناء عملها في جامعة الخرطوم، وإقامتها في السودان خلال سنوات الثمانينيات، حيث أُتيح لها هناك أن تلتقي بالمفكّر محمود محمد طه، وتطّلعَ على أفكاره حول "الفكرة الجمهورية"، ورغم محاولته أكثر من مرّة في أن يكسبها لصالح حركته "التجديدية"، إلّا أنها ظلّت محافظة على مسافة نقدية من رؤيته الدينية، مُدركةً إلى أي مدى يُمكن أن يصل، قبل أن يُنفّذ بحقّه حُكم الإعدام عام 1985.
وبالتالي، يصعب أن نصِفَ تجربة الجيوسي مع بيروت بأنها "بدايات"، على غرار ما قرأه الناقد الأميركي روبن كريسويل في تجربة أدونيس، ومن ورائه مجلّة "شعر"، وذلك في كتابه "مدينة البدايات: الحداثة الشعرية في بيروت" (2019). وهذه الصعوبة متأتّية، من كون تجربة الجيوسي المُشتبكة مع الحداثة، وعلى العكس تماماً من تجربة أدونيس، لا تقوم على "القطيعة" في تعامُلها مع حدود المكان والزمان، بل تنحاز إلى فهمٍ جدلي عنهما. كما أنّها لا تستعجل تأسيس "بدايات" من دون غايةٍ ما، أو فقط من أجل أن تُعلّل قطيعتها بـ"ضرورة الانتهاء" من أعباء متقادمة، وآن أوانُ "نعيها" كيفما اتّفق. عند هذا الحدّ، وأمام تسارُع المتحوّل، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، يُصبحُ لزاماً تأمُّل تراث الجيوسي بوصفه ثابتاً حميداً.
يُكثّف رحيلُها كلّ جميل فقدناه منذ منتصف القرن العشرين
نعود إلى بيروت وثاني مجلّاتها، "شعر"، التي رأت النور عام 1957، على يد الشاعر يوسف الخال (1916 – 1987)، وقد شاركت الراحلة في أماسي الخميس الشعري للمجلّة، كما لفتت في كتابها إلى حماسة هيئة تحريرها لترجمة تجارب وأسماء مثل ت. س. إليوت، وعزرا باوند، وسان جون بيرس، على حساب آخرين مثل إيلوار وأراغون اللذين تُرجِما لاحقاً، بعد سنوات من التأسيس؛ حيث تَرجَم عصام محفوظ قصائد لإيلوار في العدد 27 (صيف 1963)، كما ترجمت هيئة تحرير "شعر" لأراغون في العددين 31 و32 (صيف - خريف 1964).
وتذهب سلمى الخضراء الجيوسي إلى أنّ "شعر" قد خلَفَت "أبولو" (أسّسها أحمد زكي أبو شادي عام 1932)، لكنّ الوضع الشعري كان قد تغيّر عمّا كان عليه، وهذا جاء لحساب الخال وأصحابه، تكتب: "عندما ظهرت 'شعر' إلى الوجود، ألفت أمامها حركةً طليعية في أوجها، تشقّ طريقها نحو رؤية جمالية أشدّ وضوحاً، فتجرّدت لدعمها وتوجيهها، محاوِلةً بلوغ ذلك من دون فكرٍ مذهبيّ منظّم، أو عاطفية غوغائية، أو إجلالٍ للماضي، أو لما تبقّى من ذلك الإيمان شبه الصوفي بجمال مثاليّ، كان يشكّل جانباً من تراث الثلاثينيات".
ورغم أنّ الراحلة أشادت في كتابها بتخصيص "شعر" أبواباً للنقد التطبيقي أكثر تحديداً من "الآداب"، خاصة أنّ هذه الأخيرة، وفقاً للجيوسي، راحت تعرض مختلف المفهومات الجمالية عبر "نشر مقالات متضاربة حول الحركة الشعرية، وهذا ما سمح للأفكار التقليدية أن تؤكّد وجودها". في المقابل كانت "شعر" تتعرّض، بمحرّريها وأتباعها، إلى هجمات رأت أنّها تتّخذ مواقف هدّامة من المدّ القومي العربي، ولعلّ أبرزها مقال الناقد المصري رجاء النقّاش، والذي حمل عنوان "هل للشعر العربي الجديد فلسفة؟" ("الآداب"، آذار/ مارس 1963).
وكما التقطت الجيوسي مواطن الضعف في صفحات "الآداب"، نبّهت إلى ما اعترى "شعر" وهيئة تحريرها من قلّة حماسة ونقص اطّلاع على الأدب العربي القديم، كما أنّ "أفكارهم عن اللغة الفصيحة وإصرارهم على جمودها، وعلى حيوية العامية، تبدو متناقضة مع الشعر الذي كتبه الخال وأدونيس... فكيف يتأتّى لهؤلاء الشعراء أن يرغبوا في تدمير ما يصنعون؟". تُنهي الجيوسي حديثها، ببيان يوسف الخال الذي أعلن فيه توقّف "شعر" عند عدد صيف - خريف 1964، وتُشيِّع صاحب "البئر المهجورة" بموقف نقدي مُركّب ما بين النظر إلى التطوّر الشعري في سياقه الجدلي بين النهضة والحداثة من جهة، وبين تدليلها، من جهة أُخرى، على أنّ بذور الحداثة تأصّلت ونمت مع شعراء من خارج نواة "شعر" الأولى كصلاح عبد الصبور، وتوفيق صايغ، وحتى بدر شاكر السيّاب.
برحيل سلمى الخضراء الجيوسي تفقد الحداثة العربية اسماً بارزاً من جيل الروّاد، وشخصية عزّ نظيرُها ظلّت مهمومة حتى أيامها الأخيرة بالأدب العربي نقداً وشعراً وترجمة. ولئن تناولنا مقاربتها لعقدَي الخمسينيات والستّينيات بالذات، فليس حنيناً إلى ماضٍ قد مضى (وإن كنّا نكابر لو لم نُظهر أسفاً أو تعاملنا بلامبالاة مع ذلك الزمان)، بل تفكّراً بمصير حداثتنا المبتورة، وحال مُدننا المخرّبة، واستقلالاتنا الناقصة، وديمقراطيّاتنا التي ما زلنا نحاولُها... بعدها، لكُمْ أن تتخيّلوا إلى أيّ حدٍّ يُكثّف فقْدُ شخص واحد كلّ ما سبق.