"سنة موت ريكاردو ريس"، رواية جوزيه ساراماغو التي ترجمها أنطوان حمصي، تُعيدنا إلى الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا. ريكاردو ريس إحدى الشخصيات العديدة التي اخترعها الشاعر والكاتب البرتغالي. نشر بيسوا تحت عدّة أسماء، وهذا أحدها، ولم يخترع شخصيات فحسب، بل ألّف لها سيراً وطبائع ومواقف.
لذا يبدأ ساراماغو (1922 ــ 2010) روايته من حيث انتهى بيسوا. ريكاردو ريس يعود إلى البرتغال من البرازيل، وسينقله السائق إلى الفندق الذي سيُمضي فترةً مديدة فيه. سنمضي مع ريس جانباً من روايته في هذا الفندق، بين أصحابه وشغّيلته وروّاده. سنلتقي فيه بالخادمة ليديا، ومعها صاحب الفندق وخَدَمه، ورجل المخابرات المدسوس فيه.
لكنّ الأهم من ذلك أن ريس سيتلقّى في الفندق زيارة من بيسوا، الشاعر الذي اخترعه. كان بيسوا قد توفّي وذهب ريس في زيارة إلى قبره، وها هو يلتقي به في الفندق، فللميت وقتٌ للخروج، وهو يستطيع أن يلحق ريس حيث يحلّ. إنه ميتٌ حيّ، هذا ما يقوله ساراماغو، لكنّه يتوقف هنا، لن يتوسّع أكثر، لن يحوّل خروج بيسوا إلى قصّة غرائبية، لن يكون مقصده أن يروي قصصاً سحرياً.
يمنح دور البطولة لشخصية ابتكرها فرناندو بيسوا
ريس من اختراع بيسوا، وبيسوا الميت يخرج من قبره ويتجوّل ويزور الشخص الذي صنعه. لكنّ كل هذا يحدث بدون تفسير. بيسوا روحٌ ليس إلّا، ولن يكون مرئياً، ولن يشعر به أحد في الفندق، أو في المبنى الذي انتقل إليه ريس. ريس وحده يراه ويُحادثه. ما يفعله ساراماغو هو أن يجعل الشخص المخترَع، الشخص الذي هو من حبر، حقيقياً، فيما أن الشخص الحقيقي، مخترِع ريس، يتحوّل في رواية ساراماغو إلى ميّت حي، حيّ فقط أمام مَن اخترعه.
من هنا نجد أن فانتازيا ساراماغو هي في تشخيصه لريس، الذي هو في الأصل شخصية أدبية، في حين أن الشخص الحقيقي يتحوّل، في روايته، إلى ميت حي، أي إلى شخصية فانتازية غرائبية. أي أن ساراماغو يصنع في الأساس روايته كلّها من هذا التبديل، من هذا التبادل بين الشخصين.
رواية ساراماغو الضخمة، التي تقترب في ترجمتها العربية من 500 صفحة، لا تبدو، في أحداثها وأخبارها، فضفاضةً بهذا الشكل. بل يمكننا القول إن الرواية، فوق غرائبيتها الأصلية، قليلة الأحداث. إنها رتابة الإقامة في الفندق، والدوران بين المشتغلين فيه وروّاده، ثم هي، بالدرجة نفسها، رتابة التجوال في المدينة والإقامة في البيت. الحدث اللامع هو في زيارات بيسوا التي كأنها لا تحدث. ثم هناك، على الهامش، أخبار الحرب الأهلية الإسبانية، وتفاصيل ديكتاتورية سالازار، مستبدّ البرتغال، بحيث إن ريس يُستدعى للتحقيق، لا لسبب إلّا لأنه عائد إلى البرتغال.
يمكن القول إن رواية ساراماغو، رغم غرائبيتها، ليست درامية. بل يمكن القول إن ساراماغو يجتهد لتبدو حتى العقدة الغرائبية ــ أي زيارة الميت وخروجه من القبر ــ أقرب إلى أن تكون طبيعية، بحيث إننا لا نشعر في هذه اللقاءات بموت بيسوا، ولا ريس نفسه يشعر بذلك، وكأن هذه الزيارات تدور في الخيال، أو تدور في داخلية ريس.
رواية تُشبه تجوالاً في الفكر والنفس وتشبه قصيدةً طويلة
لنقُلْ إن مخترع بيسوا يحلّ في الحياة بديلاً عنه؛ لنقُلْ إن هذا التغريب بين بيسوا ومخترعه، هو حدث الرواية الأبرز، فالرواية هي في حلول ريس محلّ بيسوا، إذا كان بيسوا في الحقيقة مخترع ريس، فريس في الرواية مخترع بيسوا. في ما عدا ذلك سنجد ريس يسير ويتجول، وسيره وتجواله هذان يشفّان عن تفاصيل وأفكار بعدد جُمَلها. إننا نعثر على تأمّل وعلى صورة في كلّ جملة تقريباً. الحدث الحقيقي في الرواية هو في هذا. الرواية، هكذا، هي هذا التجوال في الفكر وفي النفس، إنها، من هذه الناحية، تكاد تكون قصيدة طويلة. التأمّلات التي تدور حول كلّ شيء وكلّ خطوة هي أيضاً هذا المزيج من الفكرة والصورة في آن معاً.
إذا كان في الرواية منحى درامي، فنحن لن نجده في مقابلة بيسوا وريس، التي يمكن أن تنحو إلى مطالعة فلسفية. إنها في الحب الذي يجمع ريس بخادمة الفندق ليديا، من ناحية، ومن ناحية أخرى نزيلة الفندق ذات الذراع المشلولة، مرساندا، التي تغشى الفندق مع والدها مرّة في الشهر. حُبّ ليديا، على رغم توقُّده من قِبَل ليديا، هو حبٌّ ناقص، بل هو حُبٌّ بدون أفق. نستشعر، ولو من بعيد، أنه هكذا لأنها خادمة. في حين أن حُبّ ريس مبذول للفتاة المعاقة التي لا تقبله، ويمكننا هنا أن نستشعر أن ما يجذبه إليها هي إعاقتها نفسها.
السياسة بالطبع موجودة، فالزمن السالازاري هو زمن ديكتاتورية، وإلى جانبه ينهض زمن فرانكو. السياسة حاضرة، لكنْ بقدرٍ من قلّة الاكتراث، ومن تسخيف السياسة نفسها التي تحتلّ فقط هامشاً من الرواية. يمكننا، في النهاية، القول إن قراءة "سنة موت ريكاردو ريس" رحلةٌ حقيقية، فنحن لا ننفكّ نطوف مع ساراماغو في لشبونة وفي شعر بيسوا، وفي الشعر كلّه بوجه عام.
* شاعر وروائي من لبنان