سنواتٌ طويلة بين خوان خيمينز وجيل الـ27

02 نوفمبر 2021
خوان رامون خيمينز عام 1955 (Getty)
+ الخط -

كان خوان رامون خيمينز (1881-1958) حجر الأساس الذي نهضَ عليه الشِّعرُ الإسباني في عصره الفضّيّ، أي في القرن العشرين، ولربما كان ديوانه "مكان" (1956)، الذي أهّله للحصول على "جائزة نوبل للآداب" في العام نفسه، ذروة ما كُتِبَ نثراً في أوروبا في ذلك الوقت. لقد كان خيمينز شمساً ساطعة في سماء الأدب الإسباني، ولم يكن يطوف حوله، في المجرّة الشعريّة نفسها، إلّا نجوم شاحبة لا بريق لها.

لم يكن أحدٌ في إسبانيا، حتى تلك الفترة، قد سمع بشاعرٍ اسمه لوركا، أو بآخر يدعى رافائيل ألبيرتي، أو ثالثٍ اسمه بيدرو ساليناس؛ والقائمة تطول من مجموعة من الشعراء الذين سيشكّلون لاحقاً واحدة من أهم المجموعات الأدبية في إسبانيا وأوروبا، إلى أن جاء خوان رامون خيمينز فرحّب بهم، واستضافهم، ورعاهم تحت جناحيه، فاتحاً أمامهم منبراً مهمّاً ومساحة احتوت كتاباتهم الإبداعية، أوّلاً في مجلته "إندسي" (1921-1922)، ثم فعلَ الشيء نفسه معهم في كلٍّ من مجلتيه "سي" عام 1924، و"ليي" 1924، اللتين أنفق عليهما من جيبه الخاص، دون أن يذكر اسمه في صفحاتهما.

مع مرور الوقت صارت تلك المواهب الشابة من أهمِّ الشخصيّات الأدبية والإبداعيّة، كتّاباً وشعراء، في إسبانيا، لا بل إنّهم أسّسوا واحدة من أهمّ المجموعات الأدبية: مجموعة جيل الـ27، التي كان لخوان رامون خيمينز تأثيره الواضح على أفرادها، فتعلّموا منه ومن أشعاره، لكنّ الزّمن قلب هذه المعادلة بين الأستاذ والتلاميذ، فثار الأبناء على الأب، وهبّت رياح العواصف الأدبية، لتتحوّل، مع مرور الزمن، من عواصف جماليّة وشعريّة إلى خلافات شخصيّة، إهانات، ونكران، وصولاً، في كثيرٍ من الحالات، إلى غياهب النسيان والخصام التام.

على هذه القاعدة: أبوة الشعر وخيانة الأبناء، ينهض كتاب "أصداء صوتٍ. خيانة الصداقة: خوان رامون خيمينز وجيل الـ27"، الصادر حديثاً عن دار "Linteo"، لمؤلّفه خوسيه أنطونيو إكسبوسيتو، والذي يتناول فيه تفاصيل علاقة الصداقة أوّلاً، ثم العداء، التي جمعت بين عرّاب الشعر الإسباني، خوان رامون خيمينز، كما يصفه المؤلّف، وأعضاء مجموعة جيل الـ27 الأدبية، لا سيّما لوركا، رافائيل ألبيرتي، بيدرو ساليناس وخورخي غيين وداماس ألونسو.

أصداء صوت - القسم الثقافي

يروي لنا إكسبوسيتو في كتابه المثير العديد من القصص والروايات المرتبطة بصداقة العداوة بين الأستاذ والتلاميذ، حيث سنكتشف عبر صفحات الكتاب، والتي يبلغ عددها خمسمائة، تُقرأ بسلاسة وبأسلوب سردي مشوِّق، أنَّ خوان رامون خيمينز كان من قدّم ديوان "ملاح على اليابسة" واختار معظم القصائد التي اعتمدها ألبيرتي في النسخة الأخيرة من ديوانه. كذلك سيكشف لنا المؤلّف أنَّ شاعر الحب، بيدرو ساليناس، طلب من خيمينز أن يصحّح ويراجع له قصائد ديوانه الأول الذي حمل عنوان "تنبّؤات"، والذي شكّل انطلاقة ساليناس الشعرية، لا بل إنّه تبنّى العمل بشكل شخصي، وأسّس من أجله سلسلة شعرية خاصّة، ناشراً الكتاب فيها.

كذلك سيكون خوان رامون خيمينز أوّل من استضاف لوركا في مدريد، مرحّباً به بعناية فائقة ومستقبلاً نصوصه الشعرية بحفاوة كبيرة: "لقد كان الجميع آنذاك يقصد خيمينز، لقد ذهبوا إليه ولم يذهبوا إلى الشاعر أنطونيو ماتشادو، كان خيمينز ملجأً للجميع، وقد آمن بهم ورعاهم فرداً فرداً. لولاه لما عرفنا جيل الـ27 الأدبي كما نعرفه اليوم"، يعلّق مؤلّف العمل، الذي يأخذ موقفاً واضحاً في كتابه إلى جانب خيمينز، واصفاً كلّاً من ألبيرتي ولوركا وخورخي غيين بناكري الجميل مع عرّاب الشعر الإسباني، لا سيّما وأنهما لم يدرجاه ضمن مجموعة جيل الـ27، كما أنهما لم يتحّدثا عن أثره عليهما، الأمر الذي فهمه خيمينز على أنه رسالة طلاق ونكران للجميل، خصوصاً بعد أن رفض الشاعر داماس ألونسو أن يذكره في مقاله الشهير آنذاك، والذي حمل عنوان "شعراء إسبان معاصرون".

فشل أعضاء جيل الـ27 في الإجابة عت أسئلة خيمينز الجوهرية

ضمن هذا السّياق، يمكن مناقشة الأحكام الجماليّة والشعريّة التي يطلقها مؤلّف العمل على جيل الـ27، والتي تكاد أن تكون مشابهة تماماً لموقف خوان رامون خيمينز الذي لم يؤمن بالحركات الطليعيّة، بل كانت، في رأيه، نزعاتٍ إيديولوجيةً مشتركةً، تمّ صوغها بأسلوبٍ جديد ومحدّد، وهذا أمر من شأنه أن يقضي على فردية الشاعر وفرادته. من هنا، تحديداً، بدأ الشرخ، وما كان رأياً جمالياً وشعرياً، سرعان ما تحوّل إلى خلاف شخصي. "حين فشل أعضاء جيل الـ27 الأدبي في صياغة أجوبة عن أسئلة خيمينز الجوهرية المتعلّقة بالحركات الطليعية، بدأوا بانتقاده بشكل شخصي. لقد نعتوه بأنه مغرورٌ، ومتكلّف ومتقلب المزاج، علاوة على كونه نخبوياً متعجرفاً. إذا ما تأمّل المرء هذا النوع من الأقاويل سيجد أنها انتقادات عبثية، وهي، في حقيقة الأمر، شخصيّة أكثر من كونها أي شيء آخر، وقد ارتكب خيمينز خطأ الدخول فيها"، يعلق صاحب العمل، الذي يسرد لنا لأوّل مرة أكثر من واقعة تشير إلى مدى تدهور العلاقة بين الأب والأبناء.

فمن خلاله سنعرف أن رافائيل ألبيرتي، على سبيل المثال، صعد على منبر أحد المقاهي في مدريد وأنشد بطريقة ساخرة قصيدة لخيمينز، ممّا دفع الأخير إلى وصف ديوانه "الكلس والغناء" بأنه "عمل لا قيمة له، لا يكتبه إلّا شاذٌ أخرق"، واضعاً إياه بذلك بين قائمة الشعراء الأعداء، ليردّ عليه ألبيرتي بقصيدة هجائية قال فيها: "لا تلمسه أكثر، فالحمار سينفجر"، في إشارة واضحة إلى عمل خوان رامون خيمينز "أنا وحماري". كلّ هذه التفاصيل وغيرها سيسردها لنا خوسيه أنطونيو إكسبوسيتو، مبرزاً إلى العلن، لأوّل مرة، الكثير من الحكايات والمناوشات بين الأب خيمينز وأبنائه الشعراء من جيل الـ27، واضعاً معيار قياس المواقف الأخلاقية والأفكار الجمالية والشعرية دائماً وفقاً لمعيار خيمينز، الذي وقف بشكل حاسم ضد ديكتاتورية فرانكو، الأمر الذي أدّى إلى نفيه خارج إسبانيا.

هكذا عاش خوان رامون خيمينز بين منفيَيْن، المنفى بمعناه السياسي، حيث مات في بويرتو ريكو، والمنفى بمعناه الشعري، حيث اختبر بلحمه وجلده خيانة أبنائه له، ولربّما هذا ما دفعه لينشد في أواخر حياته: "آه يا موتي، تعال الآن إلى عظامي، تعال الآن إليَّ. وأنتِ، أيّتها القرون، تعالي إلى شِعري".

المساهمون