استمع إلى الملخص
- يعالج الكتاب تعقيدات الحياة في النزوح، حيث يتحدى اللاجئون الضيافة التركية والقوانين الغامضة، مما يؤدي إلى تشويه تصوراتهم عن الزمن وخلق حالة من اللامكان.
- تسعى الكاتبة لإعادة تعريف مفهوم الثورة كمفهوم إثنوغرافي، موضحة أن الثورة تمتلك قوة تحويلية عميقة، حتى لو تم قمعها، وتؤكد على استمرار الروح الثورية لتوجيه التغييرات المستقبلية في سورية.
عن دار نشر "UCL" في "جامعة لندن"، صدر، في تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، كتابٌ بعنوان "بانتظار أن تنتهي الثورة: النزوح السوري، الزمن والذاتية" Waiting For The Revolution To End: Syrian) Displacement Time and Subjectivity) للأنثروبولوجية الفرنسية شارلوت خليلي. الثورة واللجوء هما موضوعا الكتاب، أو بمعنى آخر ماذا تبقى من ثورة عام 2011 في نفوس اللاجئين السوريين وممارساتهم اليومية في مدينة غازي عنتاب التركية. وقد يفسر هذا الكتاب انتصار الثورة في سورية وسقوط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
تم إجراء العمل الميداني للكتاب بين عامي 2013 و2016، للتأمّل في تداعيات ثورة عام 2011 التي بدا أنها قد هُزمت. تطرح فرضية الكتاب أن الثورة السورية كانت في الواقع عملية غير مكتملة، وكان أصحاب الروايات لا يزالون يأملون أن تنجح على مستوى الدولة في المجال السياسي. كانوا واعين بأن الثورة هي عملية طويلة الأمد وليست حدثاً واحداً، وأن ثورتهم ستستغرق وقتاً لتتحقّق بالكامل.
يُقدّم المفهوم الإثنوغرافي للثورة فكرة التفكير في الثورة كعملية طويلة الأمد ذات طبيعة دورية، يُمكن أن تُهزم على مستوى الدولة-الأُمّة في المجال السياسي، لكنها تترك آثاراً عميقة في المجال الاجتماعي وفي المنفى. حتى عندما كانت الثورة السورية تُعتبر مهزومة على نطاق واسع، كان العديد من شخصيات الكتاب يرون الثورة مستمرة دائماً، وهي رؤية تفتح المجال لاحتمال أن هزيمة ثورة 2011 كانت مؤقتة فقط. الفكرة بأن الثورة كانت مستمرة طوال تلك الفترات الماضية داخل وخارج سورية ظهرت من خلال أمثلة قدمتها روايات وقصص السوريين عن المقاومة اليومية لأشكال جديدة من الظلم في المناطق المحرّرة من سيطرة النظام. لم يكونوا مستعدين للخضوع لأي سلطات غير شرعية جديدة.
أدّت الثورة إلى تحوّلات اجتماعية عميقة ولا سيما للنساء
تستكمل شارلوت خليلي مشروعها البحثي عن الزمانية وعلاقتها بالتحولات المكانية، مقارنة في ما بينهما قبل وبعد الثورة في سورية، ولا سيما التغيرات الجوهرية التي طرأت على الهويات والفضاءات نتيجة للثورة (الجزء الأول)، فالثورة بحسب الكتاب لم تكن مجرد انتفاضة سياسية، بل سعت لتحقيق الكرامة الإنسانية في مواجهة الظلم والعنف، وكان الثوار مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل ذلك. انتقلت القيم الثورية إلى المنفى في تركيا (حالة الشريحة التي يدرسها الكتاب)، حيث أعاد الناس تعريف الديناميكيات المكانية ليأخذوا بعين الاعتبار القيم الثورية التي واصلوا العمل والتضحية من أجلها داخل سورية وفي المنفى.
يعالج الكتاب تعقيدات الحياة في النزوح من حيث الزمان والمكان (الجزء الثاني). في حين وصفت الحكومة التركية اللاجئين السوريين بأنهم "ضيوف"، تحدى اللاجئون السوريون هذه الضيافة الهشة والقوانين الغامضة من خلال بناء المجتمع المحلي السوري بالقيام بمشاريع اقتصادية غير رسمية وأنشطة ثقافية. حرمان اللاجئين من حقوقهم القانونية ووضعهم في حالة من الغموض المكاني والقانوني تسبب في الحد من قدرتهم على التخطيط لمستقبلهم. انتقل هذا الغموض إلى حياتهم الزمنية، مما أدى إلى تشويه تصوّرات السوريين عن الزمن وخلق حالة مستمرة من اللامكان (حيث يُصبح الماضي حالة مثالية، والحاضر معلّق، والمستقبل يظل غير مؤكد).
رغم الفشل السياسي السابق، أعادت الثورة تشكيل حياة الناس على المستويين الاجتماعي والشخصي. أحدثت الثورة تغييرات كبيرة في حياة اللاجئين السوريين في تركيا، لا سيما فيما يتعلق بالعلاقات الجندرية والأدوار الاجتماعية، مما أدى إلى تغييرات في العلاقات الشخصية وديناميكيات العائلات. وكان لهذه التحولات تأثيرات أعمق من الهزيمة السياسية للثورة. أما المآسي وآلام الفقد، فقد أعيد تعريفها في الأبعاد اللاهوتية والزمانية والأخلاقية للثورة، حيث تم تضمين أفعال الأفراد ونتائج الثورة ضمن خطة كونية لاهوتية أوسع لفهم الجانب المأساوي للثورة.
أرشيف إثنوغرافي لثورة كادت تُمحى وتُنسى قبل سقوط النظام
تسعى الخليلي إلى إظهار الطبقات والمستويات المختلفة التي تلعب فيها الثورة دورها، وتقترح الانتقال من التعريف التقليدي للثورة، والذي يعرّف الثورة على أنها تغيير في النظام وقطيعة واضحة في الزمن والتاريخ، وبهذا المنطق كانت الثورة تعتبر فاشلة قبل سقوط النظام، إلى مستوى آخر وهو رسم خريطة للتأثيرات غير المقصودة وغير الاعتيادية في الحياة اليومية وعوالم الحياة للسوريين المهجّرين. القصد من ذلك هو توسيع مفهوم الثورة بإفساح المجال لفهم ومخيلة مَن تحدثوا إلى الكاتبة لثورتهم الخاصة. يقود ذلك إلى إعادة تعريف الثورة كمفهوم إثنوغرافي له أهمية نظرية كبيرة من خلال تجارب وقصص وروايات من عايشوا الثورة وشعروا بها.
تظهر الثورة السورية أن الثورة، حتى لو تم قمعها أو هزيمتها، لا تزال تمتلك قوة تحويلية عميقة وتعيد تشكيل حياة الناس وعالمهم بشكل جذري. يتتبع العمل بالتالي آثار الثورة على المستويات الحميمة والكونية، وفي المجالات السياسية والاجتماعية، وتأثيراتها على المخيلة الدينية والتصورات المكانية والزمانية. لكن الكتاب هو أيضاً أرشيف إثنوغرافي لثورة كادت تُمحى وتُنسى قبل سقوط النظام. من خلال تناول الثورة السورية كمفهوم إثنوغرافي، تصبح الثورة عملية لصنع العالم وأيضاً لتغيير الذات، لا يتعيّن بالضرورة النظر إليها كحدث له بداية ونهاية واضحتين، بل يمكن فهمها كصيرورة بحث وتغيير مستمرة.
إحدى أطروحات الكتاب هي أن الثورة أدّت إلى تحوّلات اجتماعية عميقة، خاصة بالنسبة لأصوات النساء في الكتاب، وهو ما تضاعف بفعل التهجير. على الرغم أن المشروع الثوري كان في البداية يركز بشكل أساسي على التحوّل السياسي وتغيير النظام؛ إلا أن الثورة كان لها تأثير هائل على النسيج الاجتماعي السوري: على التنظيم الاجتماعي، وأدوار الجندر، والأعراف، والعلاقات الاجتماعية. يوثق الكتاب التحولات من خلال شهادات النساء اللواتي تحدثت إليهن المؤلفة وتأملاتهنّ حول حياتهنّ قبل وبعد الثورة، وكذلك حول ممارسات الزواج قبل وبعد عام 2011 في أوساطهنّ. يتركز التحليل بشكل أساسي على أعراف وأدوار الجندر، وعلى إعادة تنظيم الحياة الأُسرية والاجتماعية، وإعادة ابتكار ممارسات الزواج.
طرحنا هذا السؤال على المؤلفة في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي خلال زمالة تجمعنا في "جامعة ساسكس". لكل عمل مقولات سياسية، ما الذي أرادت الخليلي قوله سياسيّاً؟ أو كيف تنظر لمستقبل سورية السياسي بعدستها الأنثربولوجية؟ فأجابت الكاتبة بأن "الثورة السورية مشروع سياسي آمنت به حقّاً ولا أزال أؤمن به بطرق معينة. لا زلت أستطيع تذكر الحماس والحراك الفكري حول السياسات البديلة والتنظيمات الاجتماعية التي ظهرت إلى النور في شمال سورية منذ عام 2011 فصاعداً. على الرغم من هزيمتها، لا أزال أؤمن بأن الشعب السوري قد تغيّر بشكل عميق بفعل الثورة (وبالطبع الحرب والتهجير). آمل بشدة أن تؤدّي هذه التغيرات التي حدثت والتي لا تزال تحدث في الشتات إلى تأثير ملموس في سورية في المستقبل القريب".
وبعد سقوط النظام، أعدت طرح السؤال عن العلاقة بين فرضية الكتاب وسقوط النظام. أجابت الخليلي: "في ضوء الأحداث الأخيرة في سورية، أصبح الرجوع إلى فهم السوريين وتصورهم للتغيير الثوري أمراً مهمّاً. الآن وقد سقط نظام الأسد أخيراً بعد 13 عاماً من بدء الثورة، يمكننا التساؤل عن كيفية ارتباط هذه الأحداث ببعضها البعض. منذ يوم الأحد 8 كانون الأول/ ديسمبر، تلقيت العديد من الرسائل من أصدقائي ومُحاوَريَّ الذين يشكلون شخصيات محورية في عملي الإثنوغرافي عن الثورة. معظمهم عبَّروا عن فرحهم الكبير بسقوط النظام، وإطلاق سراح المعتقلين، وفضح القمع الوحشي الذي ظهر بوضوح مع فتح أبواب السجون. أرى أن سقوط النظام هو جزء من العملية الثورية والدورة التي وصفتها في كتابي، ولكنه ليس نهاية في حد ذاته، حيث يجب أن تستمر الروح الثورية التي ظهرت في عام 2011 في توجيه التغييرات التي ستحدث الآن بعد سقوط النظام".
* باحث سوري مقيم في بريطانيا