شارل خوري.. تجريد يروي

12 مارس 2023
(من أعمال شارل خوري)
+ الخط -

لن يشعر من شاهد معرض شارل خوري في بيروت قبل أشهر، بما يغيّبه عن اللوحة، لن يشعر بأن وراءها ذلك النموذج التجريدي العام، الذي تكوّن منذ بدايات اللوحة التجريدية مروراً بنهضتها وانتشارها. لن يرى اللعبة التجريدية وحدها، كما هي الحال غالباً حين ندخل اليوم في بلادنا إلى معرض تجريدي. إننا آنذاك أمام ما يمكن اعتباره تمريناً تجريدياً، ما يمكن أن يكون مثالاً ينحدر من تاريخ التجريد كُلّه. إذ ذاك لا يهم كثيراً كمالُ اللوحة، ما دامت معه لا تحمل أيَّ خصوصية، ما دامت معه لا تمتُّ إلّا إلى خلاصة فنية، إلّا إلى نمط نسبي، إلّا إلى نوع فحسب. 

لا نستطيع، في هذه الحال، التي تتكرّر كثيراً، من أن نمنع أنفسنا من النظر إلى اللوحة كتنسيق، كترتيب ألوان وخطوط. هذا ما ينتهي إلى نشوء فراغ بين المُشاهِد وبين اللوحة التجريدية، في لبنان، وربما غيره من البلدان المحيطة. ندخل إلى معرض شارل خوري، بهذا الحذر وبذلك الارتياب، بهذا الخوف من أن نجد لوحة ليست سوى لوحة على لوحة، سوى تكرار لتاريخ، سوى لعبة على أسلوب، وعلى نموذج وعلى نمط. لكن الأمر ليس كذلك في تجربته هذه.

اللوحة، التي تفاجئنا، لا تعود إلى التاريخ ولا تستخلص منه تكوينها. لوحة شارل خوري تجريدية، لا نقول ذلك، إلا لنميّز وجهها العام وأُفقها. إنها تجريدية بدون أن تكون مجرد لعبة تجريد، مجرد نسق، مجرد ترتيب. اللوحة تجريدية لكن ليس هذا كل ما تقوله، وكل ما تظهره. إنها تبدأ من هنا، لكنها لا تتوقف عنده. لا تتحول إلى تمرين عليه، ولن تكون هذه نهايتها. لوحة شارل خوري تجريدية في الأصل، لكن هذا ليس كل شيء، بل إن التجريد ليس وحده هنا. إنه متداخل مع وُجهات أُخرى. 

يستقي من الفن كل ما يجاور التجريد، وما يسبقه وما يصاحبه

الفن في لوحته يستقي من الفن كل ما يجاور التجريد، وما يسبقه وما يصاحبه. بل نحن أمام اللوحة التجريدية نشعر أنها على نحو ما، تنهض بالتجريد وتحييه، بما يبدو وكأنه يستخرج منه ويضيف إليه، ما يبدل في إيقاعه، ما يجعل له أفقاً ثانياً، ما يمازج التجريد فيه بغيره وسواه. اللوحة هنا قد تعيدنا إلى الإرث التجريدي، قد نشتبه، هنا، هنا وهناك بكاندنسكي إلا أن اللوحة، ليست تماماً كاندنسكي، إنها شارل خوري بالدرجة نفسها، بل هي شارل خوري أكثر أحياناً. ذلك يعني أن التجريد هنا يتكلّم بصوت آخر، أن اللوحة هنا لها ما يُشبه سردها. للوحة هنا ما يبعد قليلاً أو كثيراً عن التجريد، إنّ لها ما يكاد يبدو تنازعاً، وحكاية، ودينامية داخلية. 

من أعمال شارل خوري- القسم الثقافي
من المعرض الأخير

إن لها أيضاً ما يمكن أن يكون غناء، وإيقاعاً متتالياً. ليس فقط لأن اللوحة تحمل أحياناً إشارات تشخيصية، كأن نجد، في ناحية منها، رسماً لعصفور أو طفل. فيها ما يجعلنا نحس بأن شخصاً ما يتكلّم في اللوحة، أن لعبة أُخرى تجاور وتمازج التجريد. وراء النسق والمبنى نجد ما يمتُّ إلى حكاية، إلى معاناة، وإلى أغنية. أي أننا نجد ما يشبه البوح، ما يكاد يكون مناجاة، وملحمية غائرة. اللوحة هكذا تنزع من التجريد إلى التشخيص إلى نوع من تشخيص مضمر وخفي. اللوحة هكذا رسم وخطوط بقدر ما هي ملونة، حتى في الألوان لا يمتنع الكلام، حتى في الألوان ثمة بوح وثمة بعد نفسي وعاطفي. 

يمكننا هنا أن نشير إلى إيقاع الخطوط، إلى ممازجة الرسم بالتصوير، وغلبته أحياناً عليه. يمكننا أن نشير، بصورة خاصة، إلى ما يفعله الأسود في فضاء اللوحة، الأسود الذي في قاع اللوحة، أو هو يشكل في حينه قاعاً خاصاً. هكذا نجد فيه نوعاً من وجدانية، من معاناة، ومن عمق داخلي، وما يشبه أن يكون فصلاً درامياً. هكذا يكاد التجريد في لوحة شارل خوري أن يروي، يكاد أن يغني أيضاً، بل تبدو اللوحة معه، في أحيان كثيرة، أقرب إلى قصيدة. اللون هكذا، مضافة إليه الخطوط والرسوم، ليس مجرد تجاور ألوان. 

الأمر أكثر من ذلك، في الألوان هنا ما يشبه أن يكون دواخل وأعماقاً، في الألوان ما هو دراما فعلية، وما هو سرد، وما هو نشيد داخلي. هكذا يكون لشارل خوري تجريده، الذي يقف على حافة التعبير، على مقربة من تشخيص مختلف المصادر والاتجاهات والايقاعات، تشخيص، حين لا يجد مادة للسرد يعود إلى طفولية وإلى غناء، وإلى ما يشبه أن يكون وزناً. المهم في ذلك أن لوحة شارل خوري تملك هكذا لغتها وأسلوبها. فيما ندخل من التجريد، نحس أن ما يخرج منه يتعدّاه، ويبث فيه روحاً أُخرى. 


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون