ما من دليل واقعي أمام البشر على وجود حياة غير التي يحيونها، وليس بوسع المرء دائماً أن يعود عن خياراتٍ كان قد اتخذها، وصنعت في النهاية الصورة التي ينتهي إليها، الصورة التي يَخطر لأحدنا، في لحظة ما، أن ينسفها. لكنّ الفنون تهب البشر احتمالاتٍ غير التي عرفوها. بوسع الفنّان أن يبني الحياة التي يريد، بالهيئة التي يريد، وبوسعهِ، ضمن أدواتٍ خاصّة بكلّ فن، أن يبني حياةً نقيضة للحياة المألوفة بالنسبة إلينا.
الفنون على اختلافها تخرجُ عن منطق الممكن، من خلال منحِ احتمالاتٍ عديدة للحياة؛ فالأمر ممكن الحدوث في الفنون مختلف عمّا في الحياة. يهبُ الخيالُ الفنّانَ بعضَ ملكاتهِ، وتمنحُ الفنونُ مخيلةَ الإنسان احتمالاتٍ كانت غائبة أو عصية الإدراك، كي تُسانده. أحياناً ينقذُ القليل من الشعر روحاً جافّة، إذ لا يدرك المرء صورة الحياة التي يعيش، لأنّها حياتهُ، والمسافة مُلغاة مع نفسهِ. غير أنّ فيلماً يحكي قصته، أو روايةً تحكي عن إحدى مشكلات طفولتهِ، تساعده على أن ينظر إلى نفسهِ من مسافة.
توفّر الفنون المرآة للنفس، وهذا أمرٌ قد يمنحهُ صديق قديم ومحبّ
توفّر الفنون المرآة للنفس، وهذا أمرٌ قد يمنحهُ صديق قديم ومحبّ. لكن جاءتنا أزمنة يرى جميعنا فيها، إلى أي درجة باتَ الناسُ وحيدين. تستطيعُ الفنون هنا أن تتدخل؛ بأن تمنحَ الوحيدين يداً غير مرئية. تصلحُ الفنون، عبر استخدامها للخيال وإدارتها للمسافة، أن تكون رفيقاً لشخصٍ خذلهُ أصحابه، أو ابتعد، لظرفٍ ما، عن شبكة أمانه الاجتماعي.
الصديق مرآة، وبالنسبة إلى من لا صديق له، لربما تصلحُ الفنون أن تكون صديقة. غير أنّ الفنون لا تُظهِر ما يراه المرء فقط، وإنّما هي أقرب إلى أن تكون كرة زجاجية سحرية، تُظهِر ما يغيب عنه، ما يدور في مكان آخر من العالم، ربما ما يدور في حياته هو، الغافل عنها. يحتاج بشرٌ يواجهون وحدتهم وسط زخم العالم، يرمون بأنفسهم من الأبنية أو يطعنون أنفسهم، أو يعلّقون رقابهم إلى حبالٍ متدليّة من السقف، وهذا أمرٌ بات موجوداً في الأوطان التي نعيشُ فيها؛ يحتاج هؤلاء إلى من يكسر عنهم الطوق، ويُظهِر لهم جانباً غائباً من حياتهم، وهو آثارهم في حياة الآخرين.
ولربما يمثّل الفيلم الأميركي "إنّها حياة رائعة" (1946) للمخرج فرانك كابرا خلاصةً مثالية لما تستطيع الفنون تقديمهُ في هذا الجانب، فالفيلم يتحدّث عن ملاكٍ لا يملك جناحين، وكي يستعيد جناحيه، ينقذ إنساناً من الانتحار. وضمن ما يستطيع كلّ منهما تقديمهُ للآخر، يتفاوضان، ويطلبُ الإنسان من الملاك؛ ألا يكون قد ولد. يحقق لهُ الملاك ما أراد، ثمّ يأخذه في جولة إلى حياة أصدقائهِ، لو أنّه لم يوجد في الدنيا بالفعل، ليكتشف ذلك الذي كان على وشك أن يقدم على الانتحار الأثر الطيب الذي صنعه في حياة أصدقائه، إذ يرى أنّ حياتهم في غيابهِ، كانت لتكونَ قاتمة مؤلمة.
عبر النفاذ إلى الخيال والتحكم بالواقع من جديد، يعيد الفيلم صياغة الواقع، ليشعر ذلك الإنسان المفلس بالقيمة الثرية لحياتهِ. يعدل عن الانتحار، ينقذهُ الأصدقاء، ويجمعون المال لسداد ديونهِ. هذا الحل الممكن في الواقع كان غائباً عن إنسان وحيد، لولا تدّخل الخيال. بالتأكيد هذه نظرة رومانسية إلى العالم القاسي المتجهم الذي نعيشُ فيهِ، لكن لا تفعل الفنون أكثر ممّا يفعلهُ الصديق؛ إنّها تريدنا بصورة جيدة، وتأمل لنا حياةً جيدة، حيثُ يكون الإنسان ممتناً لوجودهِ وسط العالم، حياً وسعيداً بما يملك، فالسعادة في النهاية هي فنّ الممكن، على الرغم من نزوع الفنون إلى الكمال من غير أن تحققه.
* كاتب من سورية