استمع إلى الملخص
- الرواية تتبع أسلوب التناوب في الكتابة بين الخراط والتلمساني، مما يضفي تعددًا في الأصوات السردية ويعبر عن تجارب حياتية وأساليب أدبية مختلفة.
- تستكشف العمل الفني المشترك موضوعات الحب، الإبداع، والعلاقات الإنسانية، مع تأملات عميقة حول العلاقة بين الفنان والإنسان، مقدمة غنى ثقافي وأدبي.
"صدى يوم أخير" لـ إدوار الخراط ومي التلمساني، الرواية الصادرة هذا العام عن "دار الشروق" المصرية، مفاجأةٌ بحقّ، ليس لأنّها رواية بيدَين ومؤلّفين فقط، بل لأنّ الروائيَّين من جيلَين مختلفين، إذا علمنا أنّ الخراط وُلد عام 1926 ورحَل عام 2015، فيما التلمساني مولودة عام 1965، فإنّ بين الروائي وشريكته أربعين عاماً. كان الخراط احتفى بمجموعة التلمساني القصصية، وبقصّة "نحت متكرّر".
هاجَرت الروائية إلى كندا عام 1992؛ حيث ما زالت تُقيم، وفي عام 2000 اتّصلت بها الكاتبة هاديا سعيد، لتعرض عليها كتابة عمل مشترك مع إدوار الخراط. "أفهم من حديثها أنه اختارني اختياراً رحّبتُ به. التجربة مثيرة بالتأكيد، وفرحة غامرة يتبعها خوف عميق، وتوجُّس من المقارنة يجعلانني أتردّد قليلاً، وأوافق فوراً كأيّ امرأة جسور تداري مخاوفها، تداري مخاوفها بكلمة 'نعم' متسرّعة، وجِلة"، تقول التلمساني.
المشروع في أساسه لإدوار الخراط. إنها تجربة استحدثها هو تتجاوب مع طليعيته، التي رسمت أدبه وعلاقاته وحياته الشخصية. ما إن وافقت حتى أرسلت لها هادية نفسها الفصل الأوّل من الرواية، من كتابة الخراط. قد يكون استطراداً روائياً أن نتساءل لماذا اختفى إدوار خلف هاديا. هكذا تتمّ التجربة بين اثنين لا يتواصلان، التلمساني كانت صارت في كندا والخراط في مصر. للتجربة روايتها إذن، وقد تكون جزءاً من القصّة، بل عنصراً أساسياً فيها.
كتب الخراط الفصل الأوّل، مقترحاً السياق الروائي الذي سيعمل عليه الكاتبان. إنّه قصّة إدريس، الفنّان العظيم الذي يستقبل ليلى في مرسمه، ويسوقها إلى فراشه، ليطردها بعد ذلك كي يخلو منفرداً إلى نومه، لا يريدها أن تُصدّق أنّ ثمّة حُبّاً في المسألة كلّها، يقول ذلك بفظاظة. لن تنتهي المسألة هنا، سيكون لها ما بعدها. إلى جانب ليلى وإدريس هناك ناهد التي تعاشر إدريس، باستقلال لا يمنعها من أن تعتدّ بهذه العلاقة، وتُنافس ضمناً ليلى عليها. ليلى تستمرّ في علاقتها المتفارقة مع إدريس. هناك أيضاً يُسري المتعلّق بليلى، ويطمح إلى أن يكون التالي بعد إدريس. هذا الرباعي هو هيكل الرواية المشتركة كما يقترحه إدوار، وسيكون لمي التلمساني تجربتها عليه.
نلاحظ أنّ الخراط يقترح من الفصل الأوّل هيكل الرواية، الذي تتقيّد به التلمساني. ستكون الأعداد المفردة من الفصول الستّة، التي هي مجموع الرواية، من كتابة الأوّل، فيما أنّ الأعداد المزدوجة من كتابة الثانية. كان الخراط، حينها، في مطالع شيخوخته، فيما التلمساني في ربيع صباها. ليس الفارق في العمر من دون أثر في التجربة كلّها، التي تَعتبرها الكاتبةُ، من جانب ما، ورطة حقيقية. الورطة في أنّ كتابة الخراط رفيعةٌ أدبياً لا تستطيع هي مضاهاتها كما تقول، غير أنّ لها، هي الأُخرى، أسلوبها الخاص.
للتجربة قصّتُها، وقد تكون جزءاً من الرواية بل عنصراً أساسياً فيها
هذه الشراكة مع كاتب مجرّب ملبِسةٌ ومحرجة، كما تُقرّر التلمساني. إدوار الخراط، من ناحيته، يتابع تأثيث الرواية، ابتداءً من فصلها الأوّل. إنّه يكتب في الغالب نصوصاً قصيرة، لكنّها تحوي مسار الرواية ومقوّماتها العضوية وعناوينها الأساس. يُقدّم ذلك لشريكته كتمرين وتصميم تعمل هي عليهما. التلمساني تكتب فصولها تبعاً لفصول الخراط. تكتبها وكأنّها عملٌ على فصوله. فصولُها أطول من فصول الخراط، وإن بقيت في محيطها.
إدوار الخراط في نصوصه يقرّر الوقائع، ويرسم إطارها وعناصرها الأُولى. مي التلمساني، في نصوصها الأطول، تقوم بتحويل المنعطفات الأساس في فصول الخراط إلى سردية أُخرى، سردية يمكن القول إنّها أكثر داخلية. إنها بسط آخر، يملك الكثير من دوائره ومنعطفاته وخطوطه الجانبية، ويغوص في ثانويات وجزئيات النص المقابل، بل يُحوّلها إلى أجواء نفسية، ويفصل ويتحرّى رتوشها ودقائقها.
الخرّاط بلغةٍ هي أحياناً مباشرة وأحياناً قاطعة حادّة، بل هي لا تمانع بعض التقرير، كما هي الحال ونحن نقرأ وصفه لإدريس بـ"الفنّان النذل" وأنّه "قد حلا له أن ينتهك عمرها المسفوح فوق فراشه الملوّث". نشعر، عندها، أنّ الرواية بقلمه تحاكِم، بل تطلق أحكاماً، الأمر الذي لا تفعله التلمساني، التي هي في مباراتها مع الكاتب الكبير الذي تَرهبه، تلتزم أكثر بأصول الرواية. تحافظ هكذا على حياد الرواية وبُعدها، بل نحن نشعر أثناء قراءة الفصول المزدوجة للتلمساني أنّها نوع من تحليل روائي للفصول المفردة، نوع من قول آخر، سردية أكثر جوّانية وأكثر تفريعاً، مع أسلبة أسلس وأخفى وأكثر لامباشرة.
يرمي إدوار الخرّاط فصوله كتمرين، وتتلقّاها مي التلمساني كاختبار روائي. تنصّها من جديد في سردية ثانية، تتوقّف مراراً عند المفردة الواحدة في التمرين الخراطي، تعالجها وتبني منها وعليها. حين يذهب الخراط إلى أنّ عمق الرواية وبناءها الفكري، هو العلاقة المزدوجة بين الفنّان والإنسان، تسارع التلمساني إلى معالجة ضافية للفكرة، وتدغمها في النسيج الروائي، كأنّنا هنا أمام تصميم تضع له جسماً وحبكة.
* شاعر وروائي من لبنان